مقالات وأراء متنوعة

الحوارات

الحوارات

من أساسات وسائل المعرفة الاختلاف في الرأي, شريطة ألا تطغى العاطفة على وجهات النظر, وأن يكون صاحب الرأي ممن يملكون القدرة المعرفية في موضوع الحوار, وممن يهتمون بالجوهر لا بالشكل, وبالمضمون لا بالصياغة, وممن يقدّرون الرأي الآخر مهما اختلف مع آرائهم.

إن أصحاب الحضارة البدائية والرؤى الضيقة هم من يتراشقون بالحجارة لإثبات الفروسية في الساحة.. ويغتالون الكلمة الصادقة إذا حادت عن أهوائهم.. وهم أصحاب مقولة “رأس ولا كل الرؤوس”.. يهتمون بالسطح لا بالعمق.. أنانيون في الأخذ والعطاء.. ولهذا انطلق إلى الثريا، أولئك الذين آمنوا بأن الكلمة أساس المعرفة وأن الاختلاف في الرأي وسيلتها, وبقي في الثرى يتعارك المتهافتون من منطلق الأنا على إثبات الذات في ساحات الضياع وغياب الوعي.. يتجادلون فإما أن تكون معي أو فأنت ضدي.. في مثل هذه الساحة يكون الابتعاد والصمت هما الطريق الأسلم على الأقل لصيانة الذات من الإسهام في الابتذال وتشويه الحقائق.

لقد تراءت لي هذه الصورة عن مفهوم “الحوارات” – أو إنْ شئتم ” الملاكمات” التي يسمّونها ثقافية عبر الصحافة – عندما قرأت مؤخرا ما كتبه الزميل الأخ/ عبدالله الزيد بعنوان “من أجل القبول بتلفازية العالم” في زاويته ” إيقاع التكوين الآني” في مجلة اليمامة العدد (1015) بتاريخ 21 ذو الحجة 1408هـ, وكان الأخ الزيد يعلق في مقالته تلك على سلسلة من المقالات المنشورة في الزاوية التي أكتبها بجريدة اليوم تحت عنوان “أضواء على الطريق”.. وقد تحدثت في تلك المقالات عن قضية ليست جديدة بدأ نقاشها في أروقة الأمم المتحدة منذ بداية السبعينيات ولا تزال, كما كانت موضوع نقاش في مؤتمرات القمة لدول عدم الانحياز, وكذلك في الدول الأفريقية واللاتينية, وأُلِّف فيها عشرات الكتب, ونُشر عنها عشرات الأبحاث والدراسات, ولا تزال هذه القضية تحتل مكانة مهمة في الكليات والمعاهد والأقسام المعنية بالإعلام والاتصال, وكذلك موضوع مستمر في الاجتماعات الدولية خاصة عندما يتعلق الحوار بالشمال والجنوب أو العالم المتقدم والعالم النامي.. وتتمحور هذه القضية باختصار في الغزو الثقافي ووسائله لأن القضية أعمق بكثير من الآراء الشخصية, وكذلك أكبر من أن تكون موضوع مقالات عابرة.. وقد صدر مؤخرا أربعة مؤلفات عن هذه القضية وعشرون دراسة وأكثر من خمسين مقالة في المجلات المتخصصة, كتبها خبراء في هذا الموضوع من الذين يتعاملون مع الحرف من منطلق البحث العلمي والفكر الواعي, وليس من باب المزاج والأهواء.

البث التلفزيوني المباشر عبر العالم لم يكن يعبِّر- كما قال الأخ الزيد- عن ” رؤية شخصية” ولكن كان نتيجة لمتابعة ما يدور حول هذه القضية على المستوى الرسمي والعلمي.. ويسرني أن أزود الأخ عبد الله بمجموعة كبيرة من هذه الدراسات إذا رغب لكي يكون للرؤية أساس وللإيقاع معنى وللرأي قيمة.. ولا أعتقد أن الأخ الزيد لا يدرك الفرق بين “الاتصال من طرف واحد” وبين “التدفق الحر للمعلومات” وكذلك “الاتصال المشترك” وهو الرجل الذي أكد في مقالته المذكورة تلميحا وتصريحا أن “التلفاز العالمي” أي البث المباشر من القوى الكبرى إلى عالمنا نعمة يجب الحرص عليها..

صحيح أن الاتصال المشترك أو التدفق الحر للمعلومات مطلب ثقافي وحضاري يجب الحرص عليه ولكن شريطة التكافؤ في القدرة والوسيلة.. في المعرفة والوعي أما إذا انعدم هذا التكافؤ فإن الاتصال في هذه الحالة يصبح من طرف واحد, الأمر الذي يؤهل المتصل للسيطرة على هوية وثقافة المتلقي ومن ثم تكون التبعية.. تبعية المتلقي للمرسل.. وهذا هو جوهر قضية الصراع بين القوى الكبرى المعاصرة للسيطرة على أدمغة ضعفاء العالم الثالث.. وقد استطاع الغرب فعلا خلال العشرين سنة الماضية عن طريق وكالات الأنباء العالمية التي يمتلكها, وكذلك وسائل اتصاله الأخرى من التحكم- إلى حد ما- في فكر وتوجهات شعوب العالم الثالث, وكذلك جدولة اهتماماته بالشكل الذي يريده.. ثم تأتي المرحلة الأكثر خطورة وتتمثل في المحاولة الجادة للبث التلفزيوني عبر القارات, خاصة أن التلفزيون بحكم طبيعته أكثر تأثيرا.. وعلى الرغم من ممانعة الاتحاد السوفيتي ووقوفه إلى جانب بعض دول العالم النامي- ليس حبا ولكن خشية على من يدور في فلكه- للحيلولة دون أن تبدأ الولايات المتحدة الأمريكية بثها التلفزيوني المباشر إلى القارات إلا أن الغرب بدأ الخطوات الفعلية للبث التلفزيوني المباشر, فسوف تبدأ شركة بريطانية خاصة بإطلاق قمرين صناعيين في يناير المقبل لتغطية أوروبا بأكملها, وقد قال وزير الإعلام المصري: إن مركز البحوث والدراسات الإعلامية المصرية قد التقط تسجيلات لبث ثلاثة أقمار صناعية تتعرض لها الأجواء المصرية والعربية, وبعضها من محطات أوروبية ومن أقمار صناعية مختلفة.. وقبل سنتين تعرضت دولة خليجية لإرسال تلفزيوني مجهول على القناة الرسمية الأولى ذاتها, وكان لمادة تلفزيونية تخدش الحياء ولا يمكن متابعتها من الناس الأسوياء, ووقفت إدارة التلفزيون حائرة دون معرفة مصدر الإرسال, ويقول الوزير “إنه سيكون من الصعب منع المشاهد العربي من التقاط البث الذي يمكن تسميتــه بالغزو القادم من الخارج ما لم يكن هناك إعلام وطني وقومي يعي دوره في إطار عربي إسلامي..

هذه هي المحاولات الفعليــة الأولى قد بــدأت بعد أن استمر الصراع على مستـــوى المناقشات والدراســـات والمناظرات والمؤتمرات لمثل هذا النوع من البث على مدى أكثر من اثنتي عشرة سنة..

أما بالنسبة لأمريكا فقد استطاعت إحدى شبكاتها التلفزيونية وهي (CNN) من تغطية أوروبا بشكل واضح.. وقد حذر في بداية الثمانينيات بعض خبراء الإعلام العرب منها, ودعا لدراسة الوضع الإعلامي قبل الوصول إلى هذه المرحلة.. ولكن المشكلة أن حركتنا هي في المقام الأول ردة فعل لما يفعله الآخرون.

بقي أن يعرف الأخ الزيد أننا لن نستطيع في الدول العربية إيقاف هذا القادم باتجاه رؤوس شعوبنـــا التي تصل نسبة الأمية فيها إلى أكثر من (70%) مما يسهل عملية اغتصابها دون مقاومة، ولكن يمكن لنا أن نتجه بجديــة وبرؤيـــة علمية مؤهلة وبمسئولية اجتماعية إلى دراسة واقع إعلامنا لانتشاله من المتاهات التي يعيشها إلى واقع يؤهلـــه- على الأقل- إلى اجتذاب المتلقي المحلي وكسب ثقته, الأمر الذي قد يقلل من خطورة القادم.

إن الحرب المعاصرة هي – في المقام الأول- حرب الكلمة والصوت والصــورة بعيدا عن الرصـــاص والبارود.. ومن امتلك بالكلمــــة نواصي القوم حكمهم.. فهل من الأفضل أن نكون شعوبا لها هويتها وثقافتها وفكرها الذاتي أم نكون شعوبا تابعة لثقافات وأفكار مستوردة تتحكم في السلوك؟..

الإجابة واضحة.. إلا أن الذين يعتقدون أن الأصالة والالتصاق بالجذور وصيانة الهوية, هي عوامل الشد إلى مؤخرة الركب هم في الحقيقة- أولئك الذين وجدوا أنفسهم في مناطق الانبهار بالحضارة الغربية.. وهم الذين لم يفكّوا بعد رموز كيف يمكن للطائرة الطيران ومن الصوت أن يسمع عبر الأثير.. هؤلاء جرفتهم الرياح الغربية بانجازاتها التكنولوجية, واعتقدوا أن فكّ الارتباط مع المضامين الاجتماعية بكل ما تعنيه هو الأساس الذي سوف يأخذنا إلى “فوق”.. وهذا أمر غير صحيح, ذلك أن الغرب – عندما أقدم على الأخذ من الحضارة الإسلامية إبان نهضتها – لم يأخذ منها الثقافة والقيم, ولم يعر المضامين الثقافية اهتماما, ولكنه أخذ المنجزات واستفاد منها وبنى عليها.. إذا مشكلة الشد إلى مؤخرة الركب تكمن في أسباب أخرى كثيرة.. كثيرة جدا تحتاج إلى ندوات ومؤتمرات, فقط عندما يتعامل المجتمع بكل مؤسساته مع الصدق والحق والحقائق بعيدا عن الرغبات وتقديس الذات.

وعلى أية حال, إذا ما بقي واقع الإعـــلام العربي كما هو, واستطاع البــث التلفزيوني المباشر من القـوى الكبرى الوصول إلى المنازل, فإنني أطمئن الأخ الزيد بأن بناء القرار وتشكيل السلوك سوف يكون صناعة غير عربية وعندها سوف تكون الاستقلالية- على الأقل- الاستقلالية الثقافية- في خبر كان.

ولعلك.. ولعلنا جميعا نتفق مع قول وزير الإعلام المصري إن الإعلام الحر يبني مجتمعا حرا, والإعلام المقيد يخلق مجتمعا للعبيد, وإن الإعلام الوطني الصحيح هو القادر على أداء الدور الصحيح في الحفاظ على حضارات وقيم وعادات وتقاليد المجتمع.

ولكن ما هو وأين الإعلام الوطني الصحيح؟

هذا هو السؤال.. وهذا ما يجب مناقشته قبل وصول الغزاة..

هذه فقط مجرد لمحات عن قضية كبرى أرجو أن تتاح للأخ عبد الله دراستها بشكل جدي مع الاستعداد بتزويده بعشرات الأبحاث والدراسات عنها.. وكنت أتمنى أن يكون لوسائلنا الإعلامية حضور للمشاركة في هذه القضية ولكن الجود من الموجود.. وأستميح الزيد العذر إذا كان في هذا الرد المختصر ما لم يعجبه وله ولكم منى التحية قبل وبعد.. والسلام

د. ساعد العرابي الحارثي

زر الذهاب إلى الأعلى