حقائقُ مهمَّةٌ
21\12\1417هـ
– 29\4\1997م
حقائقُ مهمَّةٌ
الزَّمن لا ينتظر الإنسان.. وعلى الإنسان إلا يسلِّم نفسه للزَّمن يتأثَّر بمتغيراته ولا يشارك في صناعتها.. والتَّطوّر والتَّجديد والتَّغيير نتيجةٌ حتميةٌ ومتتاليةٌ للخلق – جمادا ومتحرِّكا- والإنسان مستخلفٌ في الأرض، وهبه الله قدراتٍ عقليةً متى تمَّ استثمارها تحقَّقت المعجزات وَسَبقَ الإنسان الزَّمن.
هذه حقائق أدركتها أممٌ منذ بداية التاريخ وحتَّى الآن.. وتعاملت معها فاحتلَّت المقدِّمة في المكانة – ريادةً وقوّةً وقيادةً- ويخبرنا التَّاريخ أنَّ الأمم لم تصنع مكانتها بفعل الفكر العامِّ أو الفكر الجمعيِّ للمجتمع.. الفكر الناضج والإبداع وصناعة المستقبل كان نتاج أفرادٍ وجدوا فرصة البروز والسَّاحة والقبول في المجتمع فكان فكرهم وإبداعهم ورؤاهم أساس الحركة.
إذن, المادَّة لوحدها لا تكفي لصناعة المكانة الدَّائمة.. الإنسان وحده هو – بمشيئة الله- مهندس اليوم وغدٍ للشعوب والأمم.
قبل عشرين عاما من الآن لم يكن المجتمع السعودي مفتوحا كما هو الآن للأفكار والتَّيارات والثَّقافات الأجنبيَّة.. كما كان التَّعليم محدودا.. وإثبات الذَّات والبحث عن الرَّزق هو هدفٌ أساسيٌّ للمواطن السعوديِّ.. ثم بذلت الدَّولة جهودا ضخمةً في التَّعليم فتعلَّم المواطنون.. وانفتح الشَّعب على العالم.. ولكنَّه وصل إلى قمَّة التَّسييس بعد أزمة الخليج الثَّانية ( احتلال الكويت وتحريره).. وكان من نتائج تلك الأزمة تجاوز فكر شرائح كثيرةٍ من المجتمع المحليَّة إلى العالميَّة.. ثمَّ امتلاء الفضاء بالبثِّ التلفزيونيِّ.. وكان السبب الرئيسيِّ في وجود هذا البثِّ انهيار الاتحاد السوفيتيِّ.. فقد كان المجتمع الغربيِّ بزعامة أمريكا يحاول أن يبدأ البثَّ الفضائيَّ منذ بداية الثمانينيات ولكنَّ المعسكر الاشتراكيَّ آنذاك وقف بصلابةٍ ضدَّ هذا التوجه.. وكان هذا الموضوع مجال حواراتٍ ودراساتٍ في اليونسكو التابعة للأمم المتحدَّة.. إذ كان المعسكر الغربيُّ يدعو للبثِّ المباشر على أساس أنَّه اتِّصالٌ ثقافيٌّ: Cross Cultural Comm. بينما يعتبره المعسكر الاشتراكيُّ غزوا ثقافيا Cultural Invasion. وانهارت الشيوعيَّة، وانفتح الفضاء للغرب، وبدأ البثُّ… سيطر الفكر أحاديُّ الجانب على الكرة الأرضيَّة.. والتقت الشُّعوب وسط أفكارٍ وتياراتٍ ورؤى سياسيَّةٍ واجتماعيَّةٍ وثقافيَّةٍ مختلفةٍ.. وتجاوز التَّفكير المحليُّ إلى العالميَّة.. وتأثَّر النَّاس كلٌّ بالآخر مثل تأثُّرهم أو أكثر بالمحليِّ.. في الوقت الذي بقيت فيه الأساليب السِّياسيَّة والأنماط والتَّفكير والسّلوك الإداري في بعض الدّول النَّامية كما هي.. لم تتنبه للطوفان القادم.. أو لم تعره انتباها كافيا.. أو أنَّ هناك من يزيّن لقيادات هذه الدّول النَّمط السَّائد.. فبدأت الحروب والتمزُّق في قارّة أفريقيا.. وبدأت آسيا تهتزُّ.. ويقول المتابعون: إنَّ الفتيل في معظم دول النّمو ليس بعيدا عن الاشتعال..
وبدأ المفكِّرون يخافون على بلدانهم ومجتمعاتهم ولكنَّهم – أو بعضهم وفي بعض الدول – لم يجدوا الوسيلة لتعليق الجرس منبِّهين ومساهمين بجهودهم.
المجتمعُ السعوديُّ:
لم يكن المجتمع السعوديُّ بعيدا عن هذه التغيُّرات والمستجدَّات.. وقد مرَّ بالتعليم والاتِّصال بالثَّقافات الأخرى ثمَّ البثِّ الفضائيِّ، وهو الأمر الذي يستدعي وقفه للتَّفكير والتَّخطيط للحفاظ على هذه البلاد الكريمة.. وهذه الإنجازات الرَّائعة، وهذا الاستقرار المتميز.
ولكن كيف..؟
إجابة هذا السُّؤال تتطلَّب تتبعا وتحليلاتٍ ووصفا للظواهر الجديدة.. وتغيُّر سيكولوجيَّة المجتمع والدوائر المحيطة ومنافذ الشَّرِّ من الدَّاخل والخارج.. ولذا فلن ادخل في هذه التَّفصيلات إلَّا أنَّني سأضع مؤشِّراتٍ تعود إلى المقدِّمة.. أليس في بلادنا طاقاتٌ وقدراتٌ مفكرةٌ ومبدعةٌ.. قدراتٌ وطاقاتٌ تحمل مضامين وأفكارا وآهاتٍ ولا تهتمُّ بالشَّكل لتكون في خدمة البلاد والقيادة.. نعم فيه.. ولكنَّ أفكارهم وجهودهم لم تجد السبيل نحو التَّنفيذ.
وبصراحةٍ متناهيةٍ ولكن باختصارٍ إنَّ المشكلة لا تكمن في قيادتنا مطلقا.. فهي تهتمُّ – ولا شكَّ – بكلِّ ما يعزِّز مكانة الوطن ويحافظ على استقراره.. ولكن المشكلة تكمن في الدَّوائر المحيطة.. هذه الدَّوائر التي بدأ بعضها العمل قبل عوامل التعَّليم والتَّغيير والانفتاح وثورة الاتِّصال.. هذه الدَّوائر تحول دون أيِّ فكرٍ جديدٍ.. حريصةٌ على مصالحها.. الكثير من هذه الدَّوائر لا صلة لها بالعصر.. ولا تملك قدرة التحليل وبعد النَّظر لما يمكن أن يحدث غداً.. ولذلك فهي تضع سياجا حديديا دون الفكر الجديد.. وتضع لكلِّ قادمٍ جديدٍ مهما ارتفع فكره العراقيل بكلِّ ما تملك.
.. والمشكلة الأخرى تكمن في عُرفٍ يبدو أنَّه سائدٌ في أوساط القيادة ( وجه تُعرفه ولا وجه تنكره).. فأصبح المألوف هو القاعدة.. والجديد هو الفكرة.. فيسير الزَّمن.. وتتغيَّر الأشياء.. وتتعدَّد المستجدَّات.. وتتبدَّل الأمور.. والمألوف ثابت بدون تغيير.. إنَّ من المهمِّ – وهو أمرٌ مدركٌ- أن يكون هناك وقفةٌ جادَّةٌ يكون هدفها ( أنَّ الوطن أثمن ما نملك).. وأنَّه ليس عابراً.. وأنَّ استقراره واستمراره ضرورةٌ تبذل من أجلها الأرواح.. ومن هنا تكون المكاشفة.. والتَّعامل مع الواقع بفكر الغد.. ومسابقة قطار الزَّمن بكلِّ مستجدَّاته دون الإخلال بالثَّوابت لنضمن – بمشيئة الله- الثَّبات واستمرار البناء.. ويكون المفكِّرون والمبدعون والعاملون باقتدارٍ الذين يقدِّمون مصلحة الوطن فوق مصلحة الذَّات هم.. هم.. هم لا غيرهم المقرَّبون.. بصرف النَّظر عن أشكالهم أو خفَّة دمهم أو حلاوة لسانهم..