محاضرات عامة

العلاقةُ بينَ العقلِ والقيادةِ والمجتمعِ في الدولِ العربيةِ

1408هـ -1987م:

إنَّ “الصَّدمات” التي اتَّسم بها “الفعل” السِّياسيُّ العربيُّ في بعض مراحله المعاصرة تضطرنا إلى الاعتراف بحقيقة غياب النقد السِّياسيِّ، وغياب المنهج التحليلي الاستقرائي لمجريات وتفاعلات الحركة السِّياسيَّة العربيَّة.. وبالتالي فإنَّ “الفعل” المستقبلي لا يمكن استنتاجه، ويصعب التكهُّن به.
كما تقودنا هذه “الصَّدمات” إلى طرح عدَّة استفهاماتٍ في صدر مقالنا هذا حول العلاقة بين العقل والقيادة، والمجتمع في الدُّول العربيَّة..
فمن يصنع من؟
ومن يخدم من؟
ونستطيع القول هنا إنَّ وقائع التَّاريخ العربيِّ المعاصر تؤكِّد أنَّ المثقَّفين وقادة الفكر والكتَّاب – داخل أنظمةٍ بعينها – مسخَّرون (طوعا أو كرها) لخدمة السُّلطة السِّياسيَّة لا المجتمعات ولذلك فهم يتغاضون عن جلِّ – إن لم يكن كلّ- سلبيات الدَّولة التي تعززها فلسفة الحكم وتجاربه السِّياسيَّة، وأنَّ جمهور المجتمعات التي تحكمها مثل هذه الأنظمة يكون في الغالب “ضحيَّة” للإغراء بل والإغواء كما هو حادثٌ الآن في بلاد ما بين النَّهرين.
ويبدو أنَّ منهج ” الإلزام السِّياسيِّ” الذي قيَّد حركة الفكر وأضعف دور المفكرين قد ظهر مع ظهور بعض التَّجارب السِّياسيَّة المعاصرة، لأنَّنا إذا رجعنا إلى بداية الدَّولة في العصور العربيَّة والإسلاميَّة المتقدِّمة نجد أنَّ محور الفكر السِّياسيِّ كان يرتكز على الدِّين واللغة.. أي على العقيدة الإسلاميَّة واللغة العربيَّة، لغة القرآن.. وكان العلماء والفقهاء والمفكِّرون- آنذاك- يفسرون الظَّواهــر السِّياسيَّة تفسيرا إيمانيا وعقديا، وكانوا يرون السٌّلطان من خلال ” عدسة” إيمانيَّة.. واعتمدوا على اللغة أي الكلمة ” القمَّة” في نشر أفكارهم التَّربويَّة والأخلاقيَّة والسِّياسيَّة.. وكان الفيصل عندهم في معالجة الأمـور السِّياسيِّة هو المبدأ والعقيدة لا السُّلطان.. ومن ثمَّ كان السُّلطان يمثِّل قمَّة “الهرم الإيماني”، وذروة العدالة، ولأنَّه يعتمد الرَّأي والمشورة في كلِّ شئون الدَّولة فقد نشط الفكر والفقه الإسلامي، وشهدت الحركة السِّياسيَّة والثَّقافيَّة والأدبيَّة ثراءً ملحوظا قفز بالعلماء والمفكرين والأدباء إلى مقربةٍ من “أريكة” السُّلطان.. وكان المفكِّرون والعلماء هم “جهاز الرَّقابة” على الدَّولة، وهم في الوقت نفسه الشَّريحة التي تتولَّى عملية تطوير المجتمع وترقية الحياة فيه، ولذلك كسبوا احترام السُّلطان واحترام أفراد المجتمع.
أمَّا في المراحل المتأخرة فقد كان الاهتمام بالدِّين فقط من أجْل الدَّولة وتثبيت دعائمها، ولذلك تمَّ استقطاب و” إلزام” أهل العلم والفكر لخدمة هذا الغرض، فبعض الأنظمة العربيَّة يتركز اهتمامها تماما في المحافظة على السُّلطة بجبروتها وبريقها بأيِّ شكلٍ من الأشكال، ومهما كان الثَّمن.. ويرى “ميكافيللي” أنَّ الدِّين خادم للسِّياسة، وهو أداة صارمة لتأديب المحكومين، ولا يمكن لأيِّ حاكم أن يستغنى عنه، وعليه أن يسخِّره من أجل هذه الغاية.. ولا يهمُّ – بعدئذ – ما إذا كان هذا الحاكم مؤمنا بهذا الدِّين أم لا.. فالمهمُّ أن يتمَّ استخدام الدِّين بطريقةٍ جيدةٍ تضمن ولاء جمهور العامَّة، وطاعته، ووقوفه رهــن الإشـــارة.. ويبيـِّـن لنا هـــــــذا ” الاستخدام” أنَّ هناك أنظمة سياسيَّة معينَّة – مثل نظام صدَّام – رغم أنَّها تنقَّلت عبر أيدلوجيات متباينة إلَّا أنَّ شعار الدِّين ظلَّ مطروحا في السَّاحة السِّياسيَّة على الدَّوام بغرض ” إيهام” الغالبيَّة، ودفعها في الطُّرق المرسومة والمحدَّدة سلفا.
وباستقرائنا لواقع الحياة السِّياسيَّة في العصور الوسيطة والمتأخِّرة نجد أنَّ “المبادأة” في تهديد الأمن العربيِّ تأتي – عادةً – من الدَّاخل لا من الخارج.. فالقيادات معزولـةٌ عن الفكر وبعيدةٌ عن واقع الحياة العلمية، ولذلك تشتدُّ الضُّغوط على العلماء والمفكِّرين وقادة الرَّأي، وبالتَّالي يتعرَّض “العقل الجمعي” إلى الحيرة والتفكُّك، مع عدم القدرة على اتِّخاذ مواقف موحَّدةٍ، أو تشكيل جبهةٍ متماسكةٍ.. ويهمُّنا هنا أن نقول: إنَّ البيت السِّياسيَّ العربيَّ منقسمٌ على نفسه.. وبالتاَّلي فإنَّ الفكر أو العقل العربيَّ يفتقر إلى الانسجام والوحدة، فالفكر يختلف من دولةٍ إلى أخرى باختلاف الأيدلوجيات والأنظمة السِّياسيَّة، وهذا هو سبب ضعف البناء الداخلي.. وأيضا هو السبب في صراع الفكر بدلا من الحوار.. وفي تباين الأيدلوجيات بدلا من ائتلافها.. يقول أحد المفكِّرين العرب في ورقته التي قدَّمها لأحد المنتديات الفكريَّة العربيَّة: ” عرف الوطن العربي على امتداد تاريخه نوعياتٍ مختلفةً من المفكِّرين.. مختلفين لا من حيث التوجُّهات الفكريَّة، ولكن من حيث التوجُّهات الأخلاقيَّة، والالتزامات المبدئية فكان منهم ” الشُّهداء” وكان منهم ” العملاء”، كما كان منهم ” البلهاء” و” الأشقياء” و” الخوارج” و”المعتزلة”.. وكان منهم من تحوَّل وتجوَّل بين هذه النَّوعيات.
ورغم قسوة هذا الرَّأي إلَّا أنَّه يبدو هو ” التَّشريح” والتَّشخيص الحقيقيُّ لواقع الفكر العربيِّ.. وهذا الاختلاف في الغالب ينعكس على السَّاحة السِّياسيَّة، ويؤثِّر على الحكَّام بصورةٍ وأخرى، ويتمخَّض في تحرُّش الأنظمة السياسية ببعضها.. بل وعداوة بعضها للآخــر إلى درجــة التَّهديــد والاجتيــاح.. ومن هذا المنطلــق لا بـــدَّ من محاكمة ” العقل العربيِّ” أو بالأحرى المفكِّر العربيّ لأنَّه- بلا شكٍّ- هو المسئول عن ظهور سلطة الفرد، أو- بتعبير أدقِّ- عن الدِّيكتاتوريات العسكريَّة والمدنيَّة.. والمفكِّرون في الغالب يفضِّلون دورهم في توعية وتربية وتبصير الجمهور، وفي خلق الشعور الموحَّد، والهدف الموحَّد.. وبدلا من ذلك فهم يمالئون السُّلطة ويتركون الجمهور في غفلته وسذاجته ليكون ضحيَّةً لقياداتٍ طائشةٍ تفرض “الوصاية” عليه رغم أنفه.
ولم تشهد ” الصَّالونات العربيَّة الفكريَّة والثقافيَّة أيَّة لقاءاتٍ ذات قيمةٍ علميةٍ أو اجتماعيةٍ تضمُّ قادة الفكر والرَّأي على مستوى العالم العربي.. تلك اللقاءات التي تتَّسم بالصَّراحة والموضوعيَّة, والتي يسمو فيها الحوار عن ” النَّزعات” السِّياسيَّة والالتزامات الأيدلوجيَّة، والأهواء الشَّخصيَّة.. وحتَّى اللقاءات التي عقدت – بين آونةٍ وأخرى- كانت قاصرةً على اتِّجاهات فكريِّة معيَّنة، تربطها قاعدةٌ أيدلوجيَّةٌ واحدةٌ.. وذلك مثل المنتديات الفكريَّة، والنَّدوات والمؤتمرات الإسلاميَّة، والمهرجانات الأدبيَّة والثَّقافيَّة.. ولم يحدث أن التقى علماء وفقهاء وأدباء ومفكِّرو العرب- على اختلاف اعتناقاتهم وتوجهاتهم- في قاعةٍ واحدةٍ من أجْل التَّحاور والتَّشاور حول كيفية ترقية الفكر السِّياسيِّ، وتطوير ” العقل الجمعيِّ”، ومن ثمَّ تطوير الواقع العربيِّ في مختلف مجالاته العلميَّة والثَّقافيَّة والاقتصاديَّة وما إلى ذلك.. ليست هناك “مظلَّةٌ” واحدةٌ تجمع مفكري وقادة الرَّأي ليخططوا من أجل قيادة الأمَّة إلى مصاف الشعوب المتقدِّمة.. فنحن” شتاتٌ”!! وهذه حقيقةٌ قاسيةٌ يجب أن نقرَّ بها.. لأنَّ الاتِّفاق حول السَّلبيات والإخفاقات هو الخطوة الأولى في مسار معاجلتها.. ونتائج ” التَّشخيص” هي بداية الطَّريق إلى ” طاولة” الطَّبيب ومن ثمَّ العلاج والشِّفاء.
وإذا حاولنا – في هذه المقالة- أن نجد العذر لمفكِّرينا وعلمائنا في مرافقهم المتَّسمة بالسّلبيَّة.. وفي أدوارهم ووظائفهم الضَّعيفة والمثبِّطة فإنَّ ” الصَّحائف” أو الملفَّات السِّياسيَّة ستخبرنا بأنَّ كثيراً من الأنظمة العربيَّة في الفترة منذ نهاية الخمسينيات وحتى نهاية السبعينيات (فترة الموضات الثَّورية) قد اعتمدت منهج ” الفكر الجماعي الملتزم”. القائم على التَّأييد المطلق، أو الصَّمت الحذر داخل الخليَّة السِّياسيَّة في الجسم السِّياسيِّ ” العظيم”.. وسنجد أنَّ المفكِّرين والكتَّاب انخرطوا بجانب العامَّة والغوغاء في مستويات التنظيم المختلفة يتغنَّون بعبقريَّة القيادة وإلهامها.. ولعلَّنا نجد العذر أيضا لجمهور العامَّة. فهم مخدوعون ومضلَّلون لأنَّهم يثقون في رجال الفكر والإعلام.. وعلى أيَّة حالٍ لا نستطيع- إذا التزمنا جانب الصراحة هذه- أن نجد العذر لمثل هذه الأنظمة السِّياسيَّة، لأنَّ السِّياسيين العرب- كما تقول ” صحائفهم” – يهابون ” صحَّة” أو عافية الفكر.. ويهابون الدِّيمقراطيات لأنَّها تعزِّز المناقشات وتثري الحوار، وتكون- عادةٍ- غنيةٍ بأدبيات الخطابة وتلاقح الأفكار والآراء.. وبالتَّالي ترتقي بالتَّجربة السِّياسيَّة، وتتيح للمفكِّر وحتَّى الفرد العادي إمكانيَّة المشاركة في البناء الحضاري، وفي تعديل شكل الحكم إذا اقتضت الضّرورة.
وعلى العموم فإنَّ المفكِّرين العرب- دون مغالاةٍ منا- استسلموا إلى منهجيَّة ” الإلزام السِّياسيِّ” التي ابتدعها بعض القادة العرب وطبَّقوها عبر أطرٍ سياسيةٍ خادمةٍ وخاضعةٍ.. واعتمدت فلسفة مثل هؤلاء القادة في الغالب على حصار الشّعوب ” بديالكتيك” سياسيٍّ استطاع أن يحجب الرؤية ويضع العامَّة بجودة الرديء، وبحمال القبيح، وبعدالة الظلم.. وظلَّ العامَّة ” أسرى” لهذه الشِّعارات فتراتٍ طويلـةٍ.. أنَّها مسألــةٌ أشبه بـ ” التنويــم المغناطيسيِّ”.. وللأسف فــإنَّ المفكِّرين وقادة الرَّأي هم ” الأداة” التي تولَّت أطروحات هذه الفلسفة الغريبة.. وتبنَّت عملية نشرها وترسيخها.. فصدقها العامَّة.. وعملوا على تجسيدها في واقع حياتهم اليوميَّة.
ولنا أن نتساءل في صلب هذا التَّحليل التَّشخيصي عن من هو المسئول عن وجود بعض الظَّواهر الغريبة في السَّماء العربيَّة- كظاهرة صدَّام حسين؟؟ ومن المسئول عن وجود بعض القيادات التي لا يتجاوز دافعها إطار الاندفاع والتهُّور المحكوم بالطّموحات الذَّاتيَّة؟ وماذا عن الفكر ودوره في صياغة الواقع العربيِّ؟
وبعيدا عن الفلسفات والتَّنظير، وجمل الاستعارة، و”تشطيحات” الخيال فلا بدَّ من البحث عن إجابةٍ لهذه الأسئلة.. وعلى العموم يمكننا أن نقول: إنَّ أمراض العالم العربي الكثيرة اكتسبت صفة الاستمراريَّة بسبب غياب عامل التَّشخيص، ودراسة المسبِّبات، فتراكمت العلل حتى وصل الجسد العربيُّ درجةً من الهزال جعلت بعضه يكره بعضه.. ولو سمح العرب بدراسة ماضيهم، وتقويم واقعهم، ولو استطاعوا حصر أخطائهم والاستفادة من تجاربهم وتشخيص عللهم، لما عرفت السَّاحة العربيَّة قائدا يدعى صدَّام حسين.. ولعلَّ الوقت الآن أكثر مناسبة لأن تقف الأمَّة وقفةً صادقةً مع نفسها لمحاسبة ذاتها.. والمفكِّرون وقادة الرَّأي عليهم – بحكم أنَّهم يتحملون مسئوليةً مباشرةً وكبيرةً فيما يحدث الآن بالسَّاحة العربيَّة- أن ينفروا – مهما كانت التضحيات – لمعالجة هذا الأمر الغائم القاتم.. ولا أعتقد أنَّ الفكر والعقل العربيَّ – صاحب الفضل الكبير على الحضارة والفكر الإنسانيِّ- سيعجز عن الإسهام في تشخيص وعلاج الأمراض العربيَّة.. ولكن لا بدَّ من بعض الشروط قبل أن يتحرك العقل والفكر.. ومن هذه الشروط النَّظر إلى الواقع برؤيةٍ واسعةٍ تراعي المصلحة العامَّة للأمَّة والمجتمعات العربيَّة قبل المنفعة الذَّاتيَّة، وقبل صراع المصالح ” الخاصَّة” التي تستعدي كلَّ دولةٍ على أخرى، أو التي تدفعها إلى طعنها في الصَّميم- ولا بدَّ – ضمن هذه الشّروط- أن يكون قائد الدُّول العربيَّة التَّعامل مع الحقِّ والحقيقة بعيدا عن الزيف، وتلوين الأشياء بغير طبيعتها..
أعرف أنَّ كثيرا منكم سيعتبر هذه الشُّروط موغلةٌ في المثالية، ويصعب تجسديها واقعا في عالمٍ متصارعٍ ومتباينٍ ايدولوجيَّا وفكريًّا واجتماعيًّا.. وحتى الدُّول العربيَّة ذات الإرث الحضاريِّ والفكريِّ المتحدِّ انقسمت على نفسها طوائف وأحزابا ومذاهب فأنَّى لها الاتِّفاق واعتماد الحقِّ والحقيقة!! ولكن نقول: إنَّ هذا ممكن، فالأمم المتقدِّمة لم يُقدَّر لها الوصول إلى القمَّة إلا بعد أن اعتمدت الصدق، والحقَّ والحقيقة في أقوالها وأفعالها.. ليس فقط في الحقبة المعاصرة، وإنَّما أيضا في العصور العابرة.. ولن أنسى ما قاله لي أحد أساتذة الإعلام الأجانب- ذات مرَّةٍ- حول التعامل مع العرب، قال: إنَّه يجد صعوبةً بالغةً في التعامل مع العرب، ليس فقط من خلال إعلامهم ولكن حتَّى أثناء الاتصال الفردي.. فهو- على حدِّ قوله- يجد تناقضا بيننا في الأقوال، وفي سرعة تغيير المواقف والآراء، واختلافا بين الفعل والقول.. واعتقد أنَّ الرئيس الأمريكي جيمي كارتر قد ذكر شيئا حول هذا المعنى في فصلٍ من مذكراته خصَّصه لوصف تعامله مع العرب خلال فترة رئاسته (76- 1980م).
وعلى الرغم من أنَّنا أشرنـا في وقتٍ سابقٍ إلى ضرورة محاكمة العقل العربيِّ والثَّقافة العربيَّة، إلا أنَّه يبدو من الصَّعب إجراء هذه المحاكمة نظرا لما تحمله الثَّقافـة العربيَّة من مضامين تراكميَّة تدخَّلت في الصِّياغة النَّهائيَّة لما هي عليه الآن، ويصعب أيضا تعليق كلِّ الأخطاء على الفكر والثَّقافة، فالقضيَّة ذات أبعادٍ أو أضلاعٍ ثلاثةٍ، يتحمَّل كلُّ ضلعٍ جزءاً منها، فالفكر والسُّلطة والمجتمع يمثِّلون أضلاع المثلث.. والحديث عن دور كلِّ ضلعٍ في الحفاظ على بنيانٍ سليمٍ للأمَّة يحتاج إلى الكثير من الدِّراسات البحثيَّة من أجل الوصول إلى نتائج مؤكَّدة يقوم عليها العلاج.. وتكشف لنا الاستقراءات المتأنِّية للتَّاريخ العربيِّ المعاصر وواقعه أنَّ هذه العوامل الرَّئيسيــَّة الثَّلاثـــة هي التي تضع وتشكِّل الواقع العربيِّ بكلِّ ما يمور فيه من أخطاءٍ وتناقضاتٍ وخصوماتٍ.. وأنَّ هذه العوامل تدخَّلت بطريقٍ مباشـرٍ أو غير مباشرٍ في دفع الأمَّة العربيَّة إلى متاهاتٍ مظلمةٍ، وأنفاقٍ طويلةٍ معتمةٍ.. فإذا أخدنا قادة الفكر- من بين العوامل الثَّلاثة- مثالا خاطفا للتدليل على دورهم في إخفاقات وإحباطات أمَّة العرب فسنحاول إخضاع إسهاماتهم خلال خمس سنواتٍ على معايير تحليل المضمون.. لنقرأ هذه الإسهامات بعيدا عن معامل الأبحاث، وسنجد أنَّ بالإمكان الوصول إلى النَّتائج من القراءات الأولى.. وأكاد أجزم بأنَّنا سنطالب بمحاسبة هؤلاء الذين يتربَّعون على منافذ ومنابع تكوين الفكر والرَّأي العربيِّ.. وسنحمِّلهم الكثير من المسئوليات.. فصدَّام حسين مثلا وجد صمتا أو تبعيةٍ مطلقةٍ من مفكري ومثقفي الداخل، وخمولا ( أو غضَّ نظرٍ) وتطبيلا -أحيانا- في الخارج، فضمن الصَّمت من المتهيبين والتطبيل والتأييد من المنتفعين فاستثمر الفرصة لنهايتها.. وعلى الرّغم من ذلك فإنَّ الفكر العربيَّ -على ما يبدو- لم يكن قادرا على استقراء تاريخ الرجل وفداحة فعله الداخلي.. لقد عجز هذا الفكر لأنَّه فكرٌ انفعاليٌّ لا يرتكز على مقومات ثابتة.. ولأنَّه – ولنقل بعضه- يسير وفق حسابات المصلحة.. لقد وقع هذا الفكر (عمدا أو عن غير عمدٍ) في فخِّ ( سلطة الفرد).. هذا ” الفخُّ” السِّياسيُّ الذي يقوم على المجاملات والزَّيف والكذب والخداع.. وبالتَّالي يمكن أن نسمِّيه فكر التَّضليل الذي يخادع نفسه أوَّلا ثم القيادة والمجتمع.
لقد استخدم صدَّام – بالسخرة- العلماء والمفكِّرين والمثقَّفين لخدمة إمبراطوريته ونظامه العجيب، ونتيجة لذلك قويت شوكته ومن ثم زادت أطماعه.. ويقول أرسطو: ” كلَّما شعر الناس أكثر بأنَّهم أقوياء كلَّما كبرت أكثر شهيتهم للسّيطرة…” استهوت الرجل أحلام القوميَّة واقتسام الثَّروات فبــــدأ بإحـدى جاراتـــه الصَّغيرات معتمدا على مبــدأ ” البقاء للأقــوى”.. ورصــدا للسِّياســـة ” الوبائيَّة” الحديثة لصدام نقرأ مع جان جاك شوفالييه وهو يحلِّل سياسات الطُّغاة: ” إنَّ الطَّريقة القويَّة والعنيفة لأقصى حدٍّ، تتضمن مجموعةً كبيرةً من الوسائل المحدَّدة منهجيا، والتي تستجيب لأهداف النظام الطّغياني الثلاثة وهي: إذلال نفوس الرعايا، ثانيا: بذر الريبة فيما بينهم من أجل تجنب المؤامرات التي تفترض وجود ثقةٍ متبادلةٍ بين المتآمرين ( وفي نفس الاتجاه شنُّ الحرب على الشرفاء لأنَّهم الأكثر خطورةً)، ثالثا: إبقاءهم في حالة عجزٍ عن التصرُّف.
إنَّ الطَّاغية الذي يتبنَّى هذا الخط السُّلوكي يحرص على أن يعادل بين أفراد النخبة وأن يقضي على النُّفوس العالية، ويطلق العنان لمطاردة الثَّقافة العالية، ويمنع المواطنين إلى أقصى حدٍّ ممكن من التَّعرُّف على بعضهم البعض، ويجبر الأعيان والكبار على العيش تحت إشرافه، ويستعمل عددا من الجواسيس والجاسوسات والمراقبين والمستمعين، ويفقر الرعايا حتَّى لا يكون لديهم وقتٌ للتَّآمــر بسبب استغراقهم في العمل اليوميِّ، ويثير – أخيرا- الحروب ( وهي طريقةٌ أخرى لشغل الرعايا، وليجعلهم في نفس الوقت يشعرون باستمرارٍ بالحاجة لرئيسٍ).
ويقول شوفالييه على لسان ميكافيللي: ” إنَّ المبرِّر الأوَّل والأخير لسياسة الأمير هو استعمال قواه- أي شنُّ الحرب.. فهذه السِّياسة يجب أن تكون موضوع كلَّ أفكاره.. إنَّها المهنة الحقيقيَّة لأيِّ حاكمٍ.. فالذي يحتقر الفنَّ الحربيَّ يركض إلى هلاكه)، ويرى ميكافيللي أنَّ الحرب تندرج- مثل أكثر الظَّواهر الطَّبيعيَّة- ضمن معطيات حياة الغابة السِّياسيَّة نفسها.
وإذا استطردنا في الحديث عن دور الحاكم في قيادة الأمَّة إلى داخل أنفاقٍ مظلمةٍ، وعن دوره في قهر الفكر وترويض المفكِّرين وإرهاب العامَّة نقرأ للدكتور سعد الدين إبراهيم: ” ومنذ هزيمة العرب على يد إسرائيل عام 1967م وطوال السبعينات وأوائل الثمانينات اتَّضح عجز جميع الحكَّام- على اختلاف صفاتهم- وزادت الهوّة بين الحاكم والمجتمع والمفكِّر، هوّة الشكِّ وعدم الثَّقة والخوف المتبادل..”.
وعلى أيَّة حالٍ وبناءً على ما أوردنا في هذا المقال يتَّضح لنا أنَّ سبب التَّخبُّط السِّياسيِّ والبلبلة الفكريَّة، وبروز بعض الظَّواهر السِّياسيَّة الغريبــة يرجع إلى السُّلطان نفسه ثم إلى المفكِّرين، إنَّها مسئوليةٌ مزدوجةٌ قادت العالم العربيَّ إلى التفكُّك والشَّتات رغم المعطيات الحضاريَّة والدِّينيَّة التي تهدف إلى الوحدة، وإلى بناء مجتمعٍ أخلاقيٍّ، وحضاريٍّ متماسكٍ وراسخٍ في ظلِّ حضاراتٍ مادِّيَّةٍ استهلاكيَّةٍ ومتهافتةٍ.. إنَّ ” مقاومة” المفكر أو مواجهته للطغيان لم تتخذ الطابع الإيجابي الذي يدفع الجمهور إلى المشاركة، كما أنَّ سلبية المفكِّرين قعدت بدورهم في تنوير وقيادة الرأي العام وبالتالي فإنَّ الجماهير ظلَّت عاجزةً عن إدراك ” منفعتها”، وأصبحت تتحرَّك آليا.. ومن ناحيةٍ أخرى فإنَّ حركة السُّلطان ظلَّت تتمحور حول السُّلطة، ولم تتعدها إلى المنفعة العامَّة والتطـوّر الشامل.. فلو كان الحاكم جامعا للعقل والقدرة على القيادة، لَخَلَقَ مظلَّةً آمنةً للمفكِّرين والعلماء، وشجَّعهم، ورعى نشاطاتهم العلميَّة والفكريَّة والثَّقافيَّة ودفعهم إلى الإنتاج والإبداع.. أمَّا هذه العلاقة المتذبذبة بين الحاكم والمفكِّر والمحكوم فهي السبب في صناعة هذا الواقع العربيِّ المرير.
إنَّ الفكر إذا أزدهر في بيئةٍ صحيّةٍ ومعافاةٍ، فإنَّ النَّتيجة ستكون تطوّرا ملحوظا في شتَّى مجالات الحياة بدون استثناء.. وإذا أمن السُّلطان جانب المفكِّرين، وقادة الرَّأي لهيّأ لهم بيئةً صالحةً، وآمنةً لتنمية إنتاجهم وإبداعاتهم، وساعدهم على تطوير المجتمع برمَّته..هذه المعادلة البسيطة إذا استوى طرفاها وتوازنا لوصلت المجتمعات العربيَّة إلى أزهى وأرقى المواقع.. وفي ظلِّ البيئات السليمة تتحدُّ عادةً الآراء والمواقف والمشاعر والتَّطلُّعات، ويلتفُّ الجميع حول هدفٍ واحدٍ، ومصيرٍ واحدٍ.. والتاريخ العربيُّ الإسلاميُّ يشهد بتكامل الفكر والسُّلطة لصالح المجتمع ولصالح الاعتقاد الواحد، والمصير المشترك.. وعلى العموم فإنَّ الهموم والإرادة العربيَّة تتقارب وتتباعد في إطار حركة الانفعالات العاطفيَّة والنَّفسيَّة للعرب.
وإذا رجعنا مرَّةً أخرى إلى التاريخ القريب للأمَّة العربيَّة بعد أن تباينت الأفكار والمصالح والأهداف سنصل إلى حقيقةٍ قد لا تكون محلَّ خلافٍ.. هذه الحقيقة يمكن أن نسمِّيها ” عداوة الذات”.. فإذا كانت هذه العداوة تتراوح بين القوَّة والضَّعف – حسب ظروف المرحلة ومعطياتها ورموزها وقادة حركتها- إلَّا أنَّنا قد لا نتردَّد في القول – ويمكن أن يكون هناك من يجزم – إنَّ الأمَّة العربيَّة تعيش الآن في أسوأ مراحلها.. وتقف فيما يبدو- بكامل رضاها- على هامة ضعفها وتفكُّكها.. وقد يصعب على الأقلِّ في هذا الواقع – الذي وجد العرب أنفسهم فيه- استقراء المستقبل، أو إسقاط بعض الضَّوء الذي يمكن أن يبدِّد – ولو جزءا- هذا الظلام الحالك.. ولا أودُّ أن أقحم نفسي بأيِّ حالٍ من الأحوال في صفوف المتشائمين الذين دفعهم الإحباط إلى حافة اليأس، حتَّى فيما إذا كان مدلول كلمة ( أمَّة ) سوف يستمرُّ – فعلا- صفةً صالحةً لكلمة ( عرب ) أم لا.. ومهما يكن فلن يصل الأمر إلى حدِّ التنكُّر للثَّوابت الدِّينيَّة والتَّاريخيَّة والاجتماعيَّة التي تعتبر- مهما تناسيناها- روابط متينةً، لا يمكن أن تنفصم عراها هكذا بفعل نزواتٍ عابرةٍ أو مخططاتٍ حاقدةٍ.. ولكَّننا في الوقت ذاته لا ننكر أنَّ الصورة الكاملة لهذه الثوابت تتأثَّر بل وتتشوَّه معالمها كلَّما أعاد العرب سلاحهم إلى نحورهم.. ويحدِّثنـا تاريخ النِّصف الأوَّل من هذا القرن أنَّ الحرب العالميَّة الثَّانية أسفرت عن تقسيم ألمانيا إلى شرقيَّة وغربيَّة.. إلى دولتين بأيدلوجيتين مختلفتين، وتتناصبان العداء.. وساد اعتقادٌ – بل وترسَّخ- بأنَّ هذا الوضع حدث ليبقى.. وأنَّ عودة الألمان إلى بيتٍ واحدٍ أصبحت ضربا من المستحيل.. وحتَّى قبل عامين فقط من الآن لم يخطر ببال عتاة الساسة، وكبار المؤرِّخين والمحلِّلين بأنَّ سور برلين سوف ينهار، وأنَّ ألمانيا ستتوحد.. وأنَّ الخصومة والعداوة الألمانية الألمانية التي دامت أكثر من خمسةٍ وأربعين عاما ستصبح ماضيا أو تاريخا للرواة.. ولكن سجل التَّاريخ المعاصر إنجازا كبيرا للألمان.. لقد تجاوزوا الخلافات الأيدلوجية.. وقفزوا فوق الخصومات.. وانطوت صفحات العداوة.. وفتحوا صفحةً جديدةَ وكتبوا عليها تصحيحا لمجرى التَّاريخ.. فقد أصبحوا شعبا واحدا تحت مظلَّةٍ واحدةٍ.. والعبرة هنا ليست بما حدث، ولكن منطق الحقيقة يؤكِّد أنَّ الأمم والشُّعوب مهما تفكَّكت وعانت من التَّمزيق والضَّياع بسبب أفعالٍ حاقدةٍ، أو مغامراتٍ مجنونةٍ، أو خبيثةٍ جاهلةٍ أو غبيةٍ لا بدَّ من أن تنتصر على كلِّ أسباب التَّمزق، وتعود – وهي أقوى- لتصحِّح مجرى التاريخ.. ولعلَّ ممَّا يولِّد المرارة، ويجسِّد الحزن أن تأتي هذه الأفعال في إطار ” عداوة الذات”.. عدواه العربيِّ للعربيِّ.. فالمبادأة – كما قلنا في صدر مقالنا هذا- من الداخل لا من الخارج.. إنَّها – المغامرة الأخيرة- صناعةٌ داخليةٌ بكاملها.. إنَّ مغامرة صدَّام الطائشة التي زلزلت الشارع السِّياسيَّ العربيَّ، وأصابته بصدمةٍ عنيفةٍ قد تمَّ تصميمها محليا وفقا لهندسةٍ قام بها طامعٌ حقودٌ حسودٌ.. ولذلك كان الجرح غائرا هيهات أن يندمل، وكانت المأساة كبيرةً بسعة السَّاحة العربيَّة.. وأقلُّ ما ستتمخَّض فيه هذه ” الصَّدمة” الهائلة هو التَّشكيك في الذَّات، والإحباط، والشُّعور بالانكسار والخيبة، مما سيؤدِّي بدوره إلى ضعف عامٍّ في حسِّ وعاطفةِ وفكرِ الأمَّةِ.. وأهمُّ من ذلك افتقاد الثَّقة في الذات.. ومتى وصلت الحالة إلى مثل هذا الواقع – كما هو حادثٌ الآن- فإنَّ العوامل الرَّئيسيَّة في حياة البشر ( الاحترام والكرامة والقدرة على العطاء) لن تكون قادرةً على البروز- إن لم تصبح صفاتٍ بدون معنى- في ساحة الفعل.. ونضيف إلى ذلك سهولة اختراق الأمَّة، والتحكم في مقدِّماتها وأفعالها من قبل القوى المعادية.
وعندما حدثت الهزيمة في عام 1967م في حربنا مع إسرائيل اعتقد كثيرٌ من المحلِّلين- على مستوى العالم- أنَّ هذه الضَّربة المؤلمة والموجعة ستخرس ألسنة العرب، وأنَّهم سيحتاجون إلى عشرات السنين كي يستعيدوا القدرة على الكلام، لأنَّ الهزيمة تجاوزت الإطار المادّيَّ إلى الذَّات.. وهزيمة الذَّات تصيب الثَّقــة في مقتلٍ ومن ثمَّ يتولَّد الضعف والانكسار والذِّلة.. ومهما قيل عن تلك الهزيمة إلا أنَّه ليس ثمَّة شبهٌ بينها وبين ما يحدث على السَّاحة العربيَّة الآن في منطقة الخليج.. فحرب 1967م كانت عربيَّة إسرائيليَّة، ولم تكن عربيَّة عربيَّة.. وبصرف النَّظر عن إرهاصات تلك الحرب وملابساتها وما صاحبها من اندفاعٍ قولا وفعلا إلا أن ما ترتَّب عليها من ذلٍّ وانكسارٍ كان يمكن تبريره أو إيجاد بعض التفسيرات التي تخفِّف من وطأته رغم غور الجرح.. وعلى أيَّة حالٍ لم تصدق تنبؤات المحلِّلين حين قالوا إنَّ العرب يحتاجون إلى زمنٍ طويلٍ حتَّى يستردُّوا جزءا من عافيتهم ويتمكَّنوا من الحديث على الأقلِّ.. ولكن جاء عام 1973م ليدحض هذه التخرُّصات، وليثبت للعالم أجمع أنَّ هذه الأمَّة لا تطيق البقاء في مواقع العثرات، وأنَّها ما إن تكبو حتَّى تنهض وهي أكثر قوَّةً.. ومع هذا يبدو لنا أنَّ قدر هذه الأمَّة ينحصر في مواصلة الصراع مع ذاتها بين الفعل الخاطئ والفعل الصائب.. بين الهزيمة والانتصار.. بين التهوّر ورجاحة العقل.. وهي عندما تتعامل مع هذا ( القدر) في مواجهة خصومٍ أساسيين أو ثانويين من خارجها فإنَّ ذلك يجعل الخطوط الفاصلة بين الصواب والخطأ ضعيفة الوضوح.. كما أنَّ حماس المواجهة المشحون بالعاطفة- كعادتنا نحن العرب- يحول دون الرَّؤية الصَّحيحة للأشياء.. فنحن- كما يؤكِّد ديوان العرب- عاطفيون، مندفعون في رضانا وفي غضبنا.. وبين هذا وذاك قد تحيد خطواتنا عن جادَّة الصواب.. والذين يعودون إلى قــراءة تاريــخ المعارك العربيَّة مع غير العرب يجدون أنَّ العقلية العسكريَّة العربيَّة مسئولةٌ عن هزائمها أمام أعدائها.
ولكنَّها سرعان ما تنهض وتعمل على إعادة ترتيب الصُّفوف، والبناء لتصبح قادرةً على المواجهة والانتصار.. وحينما قام السَّادات بزيارة إسرائيل، وبدأت مرحلةٌ أخرى من الفرقة العربيَّة ظنَّ العالم- مرَّةً أخرى- عدم قدرة الأمَّة على تحقيق أدنى حدٍّ من التماسك، أو على الأقلِّ ذلك التقارب الذي يمكن أن يسمح بالحدِّ الأدنى من التَّوافق في بعض وجهات النَّظر.. وكانت كلُّ المؤشِّرات- بعد تلك الزِّيارة- سوداويَّةً حول مستقبل الأمَّة العربيَّة.. لقد تفرَّقت الأمَّة أحزابا وعشائر وجبهاتٍ من ( صمودٍ) و ( رفضٍ) و (قبولٍ).. وصاحبت كل ذلك تبريراتٌ (وعنترياتٌ) وتحدياتٌ ومقاطعاتٌ.. بيد أنَّ الأمر لم يصل إلى حدِّ درجة التنكُّر للذات، ومغالطة التَّاريخ والمعطيات الموضوعيَّة.. وعاد العرب يلملمون جراحهم.. ويتجاوزون أخطاءهم.. واقتربت خطاهم والتقت في اتجاهٍ واحدٍ.. وسارت نحو معبرٍ واحدٍ.. وقد وصل هذا التقارب إلى ذروته في القمَّة التي أطلق عليها العرب (قمَّة الأمن القوميِّ) التي انعقدت في بغداد قبل شهورٍ وكانت قمَّةً شهيرةً اغتصبت تصفيق الجماهير العربيَّة وإعجاب الأصدقاء.. وأثارت حسد الحاسدين والأعداء.. لقد صفَّقنا لهذه القمَّة كثيرا، وفرحنا بها.. ولا غرو إذا اعتقدنا أنَّها خطوةٌ أولى في مسارٍ جديدٍ نحو الوحدة والكرامة والعزِّة العربيَّة، بعد أن طوَّقتنا الظّروف العدائيَّة والخصومات من كلِّ جانبٍ.. فماذا حدث بعد أن بلغ الفرح مداه عقب هذه القمَّة؟ وماذا بعد أن ملأ الأمل جوانحنا وأعاد إلينا الثَّقة والاعتزاز بالنَّفس..؟؟ حدث ما لم يكن في الحسبان.. ” صدمةٌ” كبيرةٌ أحدثت شروخا هائلةٍ في الوجدان العربيِّ، اجتاحت العراق ( بليلٍ) جارتها الكويت.. وتباينت مواقف العرب إزاء هذا الحدث الذي جاء ليقوِّض كلَّ صروح الفرح.. ويغتال الثَّقة.. ويسحق ( براعم) الأمل في عناق الأخوة والأحبَّة في طريق العروبة والإسلام.. لقد جاء هذا الاجتياح ليغتال الأمن في وطننا العربيِّ، ويخلق بلبلةً في الشارع العربيِّ، ويحرِّك الشُّعوب ضدَّ بعضها بعد أن اختلفت الولاءات والمواقف العربيَّة في ظلِّ اتِّفاقٍ عالميٍّ حول ( بشاعة) الحدث.. ونعتقد الآن أنَّ الأمة العربيَّة دخلت إلى أشدِّ المراحل خطرا، وأعمقها أثرا من كلِّ المراحل الأخرى التي وقف فيها العرب يتراشقون بالكلمات والبيانات عبر وسائلهم الإعلاميَّة ” الرَّسميَّة”.
وعلى أيَّة حالٍ فإن الظّلمة مهما اشتدَّت، وجلَّلت سماء العروبة يبقى هناك الأمل الكبير في أن تعود الأمَّة إلى سماحتها، ويندمل الجرح، ويلتئم الشمل.. وهكذا طبيعة العرب وتركيبتهم الاجتماعيَّة والنَّفسيَّة منذ زمنٍ قديمٍ.. أذكر أنَّ صحفيا غربيا قال لي ذات مرَّةٍ- وهو يحلِّل مواقف العرب إزاء أزمة الخليج-: إنَّ أثر هذه الأزمــة على الإنسان العربيِّ لن يستمر كثيرا بعد أن تعود الأوضاع إلى طبيعتها، واستدلَّ على ذلك بالتَّركيبة النَّفسيَّة والسِّياسيَّة للعالم العربيِّ، وبهشاشة الذَّاكرة العربيَّة التي لا تحتفظ بالأشياء طويلا.. وأكَّد- بناءً على ملاحظاتٍ عبر تجارب الخلافات العربيَّة- أنَّ العرب لا يتجاوزون في تعاملهم إطار اللَّحظة حتَّى في أعقد الأمور وأصعبها.. ويقول: إنَّ الشعوب التي تتعامل مع اللَّحظة لا يمكن أن تحسب أيَّ حساب لخطواتها المستقبليَّة.. ويصعب التنبُّؤ بتحرُّكاتها.. كما أنَّ بالإمكان- كما دلَّت التَّجارب- استثمار اللَّحظة في الحياة العربيَّة بما يؤدِّي إلى نسيان الماضي، وعدم التَّفكير في أيِّ خططٍ للمستقبل.. وعلى الرّغـم من أنَّ هناك بعض الصِّحَّة في قول هذا الصَّحفي السَّاخر إلا أنَّه يصعب حقيقةً الحكم على أمَّةٍ ما من حدثٍ أو اثنين أو ثلاثة.. والتاريخ المعاصر ليس دليلا يمكن الاستناد عليه عند تقويـم الواقع العربيٍّ.. ولا أعتقد أنَّ هذا المقال يسمح بالحديث عن حقبة الاستعمار في هذا التَّاريخ المعاصر، وعن الظّروف التَّعليميَّة والاقتصاديَّة للعالم العربيِّ.. ولكن لا بدَّ من أخذها في الاعتبار عندما نتحدَّث عن الأمس ونفكِّر في اليوم..
صحيحٌ أنَّ الغزو العراقيَّ للكويت كان ” صدمةً” عنيفةً وطعنةً في القلب غائرةً.. وأنَّ الشفاء من هذه ” الصدمة”.. وتطبيب هذا الجرح سيأخذ وقتا طويــلا يتجاوز فترة الاستشفاء والنَّقاهة من الجراح السابقة.. فالطَّعنة هذه المرَّة سدَّدها أخٌ، وقائدٌ لبلدٍ تطلعَّت إليه الآمال يوما ما، وتطلَّعت إلى الدور الذي يمكن أن يلعبه هذا البلد في إعادة العزِّة والكرامة للشَّعب العربيِّ.. جاءت الطَّعنة ممَّن تشدَّق بالقدرة على تحمِّل مسئولية إعادة ” الشَّرف العربيِّ” والعمل على تحقيق القوميَّة العربيَّة.. ثمَّ – وهذا هو المهمُّ- صحا العالم العربي فجأةً على تناقضاتٍ عجيبةٍ، ووجد نفسه في بؤرة الحيرة، وفي ساحة شاسعة يفتقد القدرة على تحديد الاتجاهات بداخلها، وعجز عن معرفة أبعادها.. ووجد خطاه تتعثَّر، وتحاول أن تتلَّمس الطَّريق وسط ظلمةٍ حالكةٍ ومهلكةٍ.
وأخيرا.. نلخص إلى أنَّ الواقع العربيَّ لن يتطوَّر إلا إذا اعتمدنا الفكر قاعــدةً لهذا التطوَّر.. فالعواطف، والانفعالات، والولاءات غير النَّاضجة هي السبب في ” فرملة” حركة التطوَّر.. كما أنَّ تكامل الفكر والسُّلطة والمجتمع هو الأساس في ضمان بيئةٍ معافاةٍ تتيح إمكانية الإبداع والتطوَّر.. ويتصاعد هنا دور الفكر الإعلاميِّ على وجه الخصوص في أحداث التقارب بين المفكِّر والسُّلطان من جهةٍ، وبين الاثنين والمجتمع من جهةٍ أخرى.. وعلى المفكِّر والإعلامي يقع عبءُ التناغم والتآلف بين الأنظمة السِّياسيَّة والمجتمعات، وإلا فإنَّ الكلمة ” المحبَّة” ستتحوَّل إلى الكلمة ” القنبلة”.. ولا شكَّ أنَّ صياغة المشاعر والأفكار وتوحيدها تعتبر من ” أبجديات” العمل الإعلاميِّ، وهي الأمانة التي يجب أن يتحملها الإعلاميُّ بتجردٍ كبيرٍ مهما كانت التضحيات.. ويبدو أنَّ عدم ” المهادنة” بين السُّلطان والمفكِّر، وبين السُّلطان والسُّلطان، وبين المفكِّر والآخر هي المخرج والمنقذ من هذا ” المناخ” السِّياسيِّ والفكريِّ المريض في كثيرٍ من دولنا العربيـَّة.. وما لم تتمُّ ” المعانقــة” بين أطراف المعادلة فإنَّ التناحر سيتغلب على التآخي، وسيسود الغمز واللمز بدلا من النُّصح والمشورة.. فهل تشهد السَّاحة العربيَّة بعد هذه ” العداوة الذَّاتيَّة” انفراجا أسريا، ويتغلب العقل على العاطفة.. ويلتقي الجميع، مفكِّرين وعلماء وساسة وفقهاء حول ” مائدةٍ فكريَّةٍ” واحدةٍ، ليحاولوا تقنين العلاقة فيما بينهم، ويخططوا لبناء مستقبلٍ آمنٍ، وبناء وحدةٍ متماسكةٍ وقويةٍ في عالمٍ يتجه نحو ” التكتلات الاقتصاديَّة”، وفي عصر تتنازعه المصالح.. إنَّ كلَّ هذا من الممكن فيما إذا أخذنا في الاعتبار الأبعاد التاريخيَّة والعقديَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة للأمَّة العربيَّة وهي أبعادٌ أساسيةٌ لا تتوافر لغيرها من الأممِ.. والسلام

د. ساعد العرابي الحارثي

 

زر الذهاب إلى الأعلى