محاضرات عامة

واقعُ الموضوعاتِ الأدبيَّةِ في الصَّحافةِ اليوميَّةِ

 

1408هـ -1987م:

لقد بدأ أمرُ الصَّحافةِ بالرَّأي والأدبِ ولم تكنْ صحافةُ خبرٍ كما هو العهد بها الآن ذلك لأنَّها كانت تستمدُّ وجودها وبقاءها منهما.. وكان محرِّرو الأدبِ والنقدِ هم الأساس في أيِّ صحيفةٍ وكان قارئ الأدبِ والنقدِ هو المستهلك الأوَّل لهذه السّلعة ولذلك عملت الصّحفُ على استقطاب أكبر عددٍ ممكنٍ من الأسماءِ اللامعةِ في دنيا الأدبِ وهي بهذا قد لعبت دوراً أساسياً في تأطير حياتنا الثَّقافيَّةِ والتَّأثير فيها وتدخَّلت بشكلٍ أو بآخر في تحديد المفاهيم الثَّقافيَّةِ والأدبيَّةِ.
وعن طريق الصَّحافةِ استفاد الأدبٍ كثيرا ذلك أنَّ الكثيرَ من الأعلامِ يدينون بشهرتهم الواسعة للصَّحافة قبل الكتابِ بل إنَّ معظم إنتاجهم كان تجميعا لأعمالٍ سبق نشرها في الصّحف أو المجلات والدَّليل على ذلك حديث الأربعاء لطه حسين وحصاد الهشيم للمازني وبهذا أصبحت الصحافة في فترةٍ من فتراتِ الثَّقافةِ العربيَّةِ مرتعا خصبا لأعمال الأدباء، والأسباب هي:
– ظاهرة اختفاءِ المجلَّةِ الأدبيَّةِ أو قلَّة انتشارها بسبب ضغوط الخسائرِ المادِّيَّةِ.
– ظاهرة إحجامِ الناشرين عن المغامرةِ بأموالهم في كتبٍ غير مضمونةِ التَّوزيعِ.
وقد كانت النَّتيجة أنَّ كتّاب الأدبِ قد استطاعوا إثارة اهتمامِ القرَّاء فكانوا يتتبَّعون ما يثار من قضايا وما يشجر بين الكتّابِ من اختلافٍ في الرَّأي بل وصلَ الأمرُ إلى مرحلةِ اعتناقِ الأفكارِ والمبادئ.
ولكنَّنا نلاحظ في عصرنا الحاضرِ أنَّ الاهتمامَ بالأدبِ في الصَّحافةِ قد تناقص أو كاد أن يتلاشى لعدَّةِ أسبابٍ منها:
– أنَّ مفهومَ الصَّحافةِ الحديثَ أصبح يقومُ على الخبرِ وما يتشّعب منه من فنونٍ صحيفةٍ أخرى كالتَّقريرِ والتَّعليقِ والتَّحقيقِ واللقاء وأصبح المحرِّرون الصَّحفيون ووكالات الأنباء المحلِّيَّة والإقليميَّة والعالميَّة يدفعون في اليوم الواحدِ بمئاتٍ من الموادِّ الإخباريَّة التي تجد رواجا وقبولا في الصّحفِ.
– بالنّسبةِ للمتلقِّي فإنَّ انتشار التَّعليمِ ورخص ثمنِ الجريدةِ قد جعلها في متناول يد الجميعِ ولم تصبح الصَّحيفةُ فقط للنّخبةِ والصَّفوةِ المختارةِ من المجتمعِ كما كان الحال في الماضي. وللقرَّاءِ الجددِ بالطّبع اهتماماتٌ متعددةٌ تحاول الجريدة بالطّبع إرضائها.. ولقد تقلَّص الاهتمام بالشَّكلِ اللغوي الفصيحِ وحلَّت محلَّه لغةً جديدةً للصَّحافة تخاطب عامَّةِ النَّاسِ, حتَّى لقد أصبح من الممكن لرسم كاريكاتيرٍ واحدٍ أن يعبِّرَ عن فكرة مقالٍ كاملٍ.
– وبذلك لم تُعد الصَّحافة في أغلب الأحيان وسيلــة ثقافـةٍ – بالنَّظرِ للمساحة التي تفــرد للفنِّ والرِّياضــةِ – مثــلا- وإنَّما أصبحت أداةً لإرضاء المستهلك وجـذب المعلن وهي بهذا لا تحاولُ أن ترفعَ من مستوى المتلقِّي بقدر ما تحاول أن تقدَّم له ما يرضيه في الإطار الذي يعجبه ويفضله. وقد أثَّر الوضع الجديد في عدَّةِ أشياءٍ:
– الدِّراسة المتخصِّصة العميقة, أصبح لا مكان لها على الإطلاقِ في الصَّحيفةِ.
– المقال الجادُّ الطويل, لا يجد القبول من معظمِ القراءِ.
– الشِّعرُ وفنونُ القصَّةِ والنقدُ, في الغالب لا تجد لها مكاناً في الصَّحيفة اليوميَّةِ إلا أحيانا في بعضِ الملاحقِ الأدبيَّةِ.
قارئ اليوم- يا سادتي- يهتمُّ بصفحاتِ التسالي كحلِّ الكلماتِ المتقاطعةِ والطرائفِ وتتبِّع شروط مسابقات “البنتليز” ” والمراعي” مثلا.. بالإضافة إلى أخبارِ فرق كرة القدمِ ونجومها وأخبار الفنانين والممثٍّلين أيضا تجد مساحةً كبيرةً بالمقارنِة مع الاهتماماتِ الثَّقافيَّةِ الأخرى.
وهذا الوضع الجديد للصَّحافةِ في محاولة إرضاء القرَّاء الأعزَّاء أصبح لا يهتمُّ بالتَّحليلِ العميقِ بقدر ما يؤمن بالإشارة ولفت الانتباه ولا يحاول الإقناع بقدر ما يحاول الإيهام عن طريق التَّكرارِ وفنون الإخراجِ ولا يراعى الوسيلة بقدر ما يصرف جهده ونظره إلى النَّتيجةِ وحدها.
وأصبحت القضيَّة عندنا أن الأدبَ لكي يصلَ إلى القرَّاءِ كان لا بدَّ له أن يرضيَ المفهوم الجديد للصَّحافةِ وظهر أدبٌ جديدٌ يمكن تسميته أدب الصَّحافةِ.
وليس العهد ببعيدٍ في تاريخِ الصَّحافةِ العربيَّةِ عندما كانت قصائد الشِّعر تجد مكانا رئيسيا في الصَّفحةِ الأولى يوم أنْ كان اسمُ الشَّاعرِ وعنوان القصيدة كفيلين بنفادِ نسخِ الصَّحيفةِ في سوق التَّوزيع والآن انزوت هذه المكانة في الصَّفحات الداخليَّة والأخيرة في بعضِ الأحيانِ.
ونعرِّج الآن للحديثِ عن أزمةِ المجلَّاتِ الأدبيَّة في عالمنا العربي التي تتبلور في النقاطِ التَّاليةِ:
– بدأ القارئ ينصرف عن قراءةِ المجلَّات الأدبيَّة مفضلا عليها القراءة المسلية السَّطحية المثيرة التي تجذبه إليها الصَّحافة اليوميَّة أو المجلَّات الأسبوعيَّة المصورة.
– الجهات الرسميَّة أصبحت تتكفَّل بأمرِ المجلَّاتِ الأدبيَّةِ ما دامت لا تستطيع أن تجد القارئ الذي يكفل لها الاستمرار والبقاء, بدعوى أن المجلَّة عملٌ ثقافيٌّ يجب أن تحرص عليه الدّولة ولو من باب المحافظة على الشَّكلِ والمظهرِ فقط.
– نرى أنَّ من واجب المجلَّة الأدبيَّة التي لا تستطيع أن تقدِّم خدمةً صحفيَّةً متميزةً ولا تستطيع أن تقنع القارئ المثقَّف بموادَّها أن تختفي عن السَّاحةِ لأنَّها بذلك تصبح غير ذاتِ فائدةٍ.
– الجهات الرسميَّة التي تدعم المجلَّات الأدبيَّة وتتحمَّل مسئولية تشجيع الحياةِ الثَّقافيَّةِ يجب أن تفّرق بين المجلَّةِ الأدبيَّةِ الجديرةِ بالحياةِ والمجلَّةِ التي يجب أن تتوارى عن الوجود ويجب أن تكون معونتها على أساس هذا الاعتبار بمعنى أن لا تتولَّى هي الإنفاق تماماً على مثل هذه المجلَّاتِ الأدبيَّةِ بحيث تكفل لها الحياة بصرفِ النَّظرِ عن اعتبارات القرَّاء والإقبال والتَّوزيع. وبذلك تصبح مثل هذه المجلَّاتِ الأدبيَّةِ مجرَّدَ نشراتٍ تصدرها هذه الهيئات الرسميَّة.
– إنَّ من واجبِ المجلَّاتِ الأدبيَّةِ أن تعمل بمبدأ المنافسة مع المجلَّات الأخرى وذلك يتطلَّب إعادة النَّظر في سياساتِ التَّحريرِ والإخراجِ والإدارةِ لمثل هذه المجلَّات.

بين الصَّحافةِ والأدبِ:
حقيقة يجب عدم إنكارها وهي أنَّ الأديب أصبح شيئا آخر غير الصَّحفي وإنْ كان كلٌّ منهما يعتمد على القلمِ في أداءِ رسالتهِ ويعتمد على النَّشر في الإعلام والإبلاغ والإعلان عنها, وبذلك نتوصل إلى حقيقة تقول إنَّ الصَّحافة مهنةٌ والأدب فنٌّ والفرق بين المهنةِ والفنِّ هو الفرق بين الصَّحفي والأديبِ.
لقد تعوَّدنا أن نخلط بين الاثنين خلطاً مربكاً أحدث الكثير من الالتواءاتِ والتَّناقضاتِ في حياتنا الثَّقافيَّة ولعلَّ السَّبب في ذلك أنَّ الصَّحافة العربيَّة قد بدأت على أكتاف الأدباءِ ولكنَّنا نجد الآن وعلى حسبِ المفهومِ الحديث أنَّ رسالة القلم عند الأديب تنبع من داخله هو بمعنى أن يحدِّد أوَّلا ما يريد أن يقوله إلى النَّاسِ ثم يجد الشَّكل الفني الملائم للإبداعِ، أما بالنّسبة للصَّحفي فإنَّ الأحداث الخارجية هي التي تستلزم المتابعة والقول ومن هنا جاء الفرق بين التَّحريرِ الصَّحفي والتَّحريرِ الأدبي ومن هذه النقطةِ بدأ الانفصالُ التَّدريجي بين كتَّاب الصَّحافة وكتَّاب الأدب, ولم يأتِ هذا الانفصال من تغييرٍ في طبيعةِ الأدبِ وإنَّما أتى من المفهوم الجديد للصَّحافة التي لم تعد قاصرةً على الشِّعر والقصَّة والمقال الأدبي والسِّياسي، وكما أسلفنا فلقد أصبح للخبرِ فيها نصيب الأسدِ, وبذلك بدأ الانفصال فظلَّ الأدب فنّا بينما تحوَّلت الصَّحافــة تدريجيـَّـا إلى مهنــةٍ تحقِّق المكاسب المادِّيــَّة الكبيرة وتقوم على الاستثمار.
بعد قيامِ كلِّياتِ ومعاهدِ الإعلامِ التي تدرِّس الصَّحافة في الجامعاتِ بات واضحا أنَّ القدرة على الكتابةِ أو مجال الأسلوب ليس هو الأداة الأولى للصَّحفي ولكن لا بدَّ من توافر خصائص أخرى كالموهبةِ والحسِّ الصَّحفي والخبرةِ والإلمامِ بالفنونِ الصِّحفيةِ ممارسةً وكتابةً وتحريرا في الخبر والتَّقرير والتَّحقيق واللقاء, وبذلك انفصلت الصَّحافة عن الأدبِ واستطاعت أن تنشئ لغةً خاصَّةً بها تستخدم جملا وألفاظا وتراكيب معيَّنة.
والصَّحافة رغم كونها صناعةً فهي في نفس الوقت تقوم برسالةِ الإعلامِ والتَّوجيهِ والتَّثقيفِ والإرشادِ، ونرجو أن تعود الثِّقة عند قرَّاء الأدب بما تقدِّمه الصَّحافة تحت اسم الأدب، وفي رأينا أنَّ أهمِّية مثل هذه الموادِّ لا تقلُّ عن أهمِّية موادِّ الأخبارِ والرِّياضةِ وقد تساعد إذا ما أحسن عرضها واستغلالها في التَّوزيعِ والربحِ, وأنَّ بعض النَّاس يمكن جذبهم عن طريق عقولهم وليس فقط عن طريق عواطفهم وفضولهم ونتمنَّى أن تفسح جميع الصُّحفِ المجال للكلمةِ الأصيلةِ التي نستطيع أن نطلق عليها اسم الأدب والفنِّ لنشترك في بناءِ النّفوسِ والعقولِ.

 

زر الذهاب إلى الأعلى