محاضرات عامة

اغتيال الأمن العربي: مسئولية من؟

1412هـ -1991م:

 

عندما نستعرض تاريخ الأمّة العربية عبر مراحلها المختلفة نصل إلى حقيقةٍ مؤلمةٍ.. وقد لا نختلف فيما إذا أطلقنا مسمى (عداوة الذات) على هذه الحقيقة.. وإذا كانت هذه (العداوة) تتراوح بين القوة والضعف حسب ظروف المرحلة ومعطياتها ورموزها وقادة حركتها إلا أنَّ المرحلة الحالية- مهما اختلفنا في تفسيرها- هي- بلا شكٍّ- من أسوأ ما مرَّت به هذه الأمّة في تاريخها المعاصر.. إنّها- بكلِّ أسفٍ- تقف بكامل رضاها هذه المرَّة على هامة ضعفها وتفكّكها.. ويبدو كأنَّها سئمت العتمة واختارت باندفاعٍ السير وسط الظلام.. لم يغرها فجرٌ جديدٌ بدأت ملامح إشراقه في سماء الساحة العالمية.. يبشر بمفاهيمَ سياسيةٍ واقتصاديةٍ جديدةٍ تضمن الأمن والسلام والرخاء العالمي.. ولكن والحالة هذه دعونا نتساءل.. فقط نتساءل من المسئول عن إشعال جذوة تدمير الذات؟!

من المسئول عن وجود بعض الظواهر القاتلة في سمائنا العربية.. كظاهرة صدام حسين؟!

وسؤالٌ آخرُ: من المسئول عن وجود بعض القيادات التي لا يتجاوز دافعها إطار الاندفاع والتهور المحكوم بالطموحات الذاتية بصرف النظر عن مقادير الأمَّة؟!

وماذا عن الفكر ودوره في صياغة الواقع العربي؟!

وبعيدا عن الفلسفات والتنظير، وجمل الاستعارة، و”تشطيحات” الخيال فلا بدَّ من البحث- على الأقلِّ- عن مقدِّمات إجابةٍ هادئةٍ لهذه الأسئلة..

إنَّ أمراض العالم العربي الكثيرة اكتسبت صفة الاستمرارية بسبب غياب عامل التشخيص، وعدم دراسة المسببات، فتراكمت العلل حتّى وصل الجسد العربي درجةً من الهزال جعلت بعضه يكره بعضا.. ولو سمح العرب بدراسة ماضيهم، وتقويم واقعهم، ولو استطاعوا حصر أخطائهم والاستفادة من تجاربهم، وتشخيص عللهم، لما عرفت الساحة العربية قائدا اسمه (صدّام حسين) .. وقد يكون الوقت الآن أكثر مناسبةً لأن تقف الأمّة وقفةً صادقةً مع نفسها لمحاسبة ذاتها، واعتقد أنً المفكرين وقادة الرأي العرب يتحملون مسئوليةً مباشرةً وكبيرةً فيما يحدث على الساحةِ العربية، وعليهم أن يتحملوا مسئوليتهم – مهما كانت التضحيات – لمعالجة هذا الواقع الغائم والقاتم.. ولا أعتقد أنَّ الفكر والعقل العربي- صاحب الفضل الكبير على الحضارة والفكر الإنساني- سيعجز- إذا تحمل مسئوليته بصدقٍ- عن الإسهام في تشخيص وعلاج الأمراض العربية.. ولكن لا بدّ من بعض الشروط قبل أن يتحرّك العقل والفكر.. ومن هذه الشروط النظر إلى الواقع برؤيةٍ واسعةٍ تراعى المصلحة العامّة للأمّة والمجتمعات العربية قبل المنفعة الذاتية.. وقبل صراع المصالح (الخاصة) التي تقصر مهمّاتها على تمييع العواطف.. وإضاعة الحقِّ.. ودفن الحقيقة.. وتشتيت الرأي.. وتلوين الأشياء بغير طبيعتها..

إنّ ” الصدمات” التي اتّسم بها “الفعل” السياسي العربي في بعض مراحله المعاصرة تضطرنا إلى الاعتراف بحقيقة غياب النقد السياسي، وغياب المنهج التحليلي الاستقرائي لمجريات وتفاعلات الحركة السياسية العربية.. وبالتالي فإنَّ “الفعل” المستقبلي لا يمكن استنتاجه، ويصعب التكهن به.. وتقودنا هذه “الصدمات” إلى طرح عدَّة استفهاماتٍ في صدر مقالنا هذا حول العلاقة بين العقل والقيادة، والمجتمع في الدول العربية.

فمن يصنع من؟

ومن يخدم من؟

ونستطيع القول هنا إنّ وقائع التاريخ العربي المعاصر تؤكِّد أنَّ المثقفين وقادة الفكر والكتَّاب في بعض الدول العربية ذات القيادات المهيبة مسخّرون – طوعا أو كرها – لخدمة القيادة حزبيةً كانت أو عسكريةً لا لخدمة المجتمعات.. ولذا فهم يتعاطون عن جلٍّ- إنْ لم يكن عن كلٍّ- سلبيات القيادة التي تفرزها فلسفة القائد وتجاربه..  ولذا يبقى الإنسان العربي في مثل هذه المجتمعات ( ضحيةً) للإغراء بل والإغواء كما هو حادثٌ الآن في بلاد ما بين النهرين.

إذن- هنا – تقع مسئولية المفكرين..

ويبدو أنّ منهج “الإلزام السياسي” الذي قيّد حركة الفكر وأضعف دور المفكرين قد ظهر مع ظهور بعض التجارب السياسية المعاصرة، لأننا إذا رجعنا إلى بداية الدولة في العصور العربية والإسلامية المتقدِّمة نجد أن محور الفكر السياسي العربي كان يرتكز على الدين واللغة.. أي على العقيدة الإسلامية واللغة العربية.. وكان العلماء والفقهاء والمفكرون- آنذاك- يفسرون الظواهر السياسية تفسيرا إيمانيا وعقديا، وكانوا يرون القيادة من خلال “عدسة” إيمانية.. وكان الفيصل عندهم في معالجة الأمـور السياسية هو المبدأ والعقيدة.. وكانت القيادة تعتمد الرأي والمشورة في كلِّ شئون الدولة.. ولذا نشط الفكر والفقه الإسلامي.. وشهدت الحركة السياسية والثقافية والأدبية ثراءً ملحوظا قفز بالعلماء, وعدَّهم الشريحة التي تتولّى تطوير فكر المجتمع وتنمية وعيه وترقية الحياة فيه.. ولذلك كسبوا احترام القيادة واحترام أفراد المجتمع.

أمّا في المراحل المتأخِّرة فقد أصبح الفكر الصحيح والصادق يقف بعيدا عن الإسهام في بناء عقل المجتمع.. واحتلَّ الدين عند بعض الدول العربية والإسلامية مرتبة متأخِّرة من الاهتمام.. وأصبحت بعض القيادات العربية الثورية تأخذ الدين ستارا لظلمها وتجاوزاتها.. وأحدث مثالٍ على ذلك محاولة (صدام حسين) البروز بعباءة الشيخ ومنطق الفقيه وحديث الإمام, ليس ذلك من أجل تثبيت دعائم دولته أو المحافظة على السلطة بجبروتها وبريقها فقد فعل ذلك بالنار والبارود, ولكن من أجل تمرير مخططاته وممارسة عدوانه على الأقلِّ لضمان فلول العامّة الذين قصّر في حقهم العلماء والمفكرون وقادة الرأي.. وأصبح الكثير منهم (فريسة) للزيف والضياع.. ولعلَّ (حاكم) العراق يعمل في هذا الجانب وفقا لما يراه مكيافيللي بأنَّ الدين خادمٌ للسياسة.. ويبيّن لنا هذا (الاستخدام) أنّ الأنظمة الثورية والاستبدادية – مثل نظام صدام- تطرح شعار الدين في الساحة السياسية على الرغم من أنَّها تتنقل عبر أيديولوجياتٍ متباينةٍ.. وذلك ليس إلا بغرض ” إيهام” الغالبية، ودفعها في الطرق المرسومة والمحدّدة سلفا.

وباستقرائنا لواقع الحياة السياسية في العصور الوسيطـة والمتأخِّرة نجــد أنَّ “المبــادأة” في تهديد الأمن العربي تأتي – عادةً – من الداخل لا من الخارج.. فالكثير من القيادات العربية وبالذات العسكرية منها معزولةٌ من الفكر، وبعيدةٌ عن واقع الحياة العلمية، ولذلك تشتد الضغوط على العلماء والمفكرين وقــادة الرأي، وبالتالي يتعرّض “العقل الجمعي” إلى الحيرة والتفكّك، مع عدم القدرة على اتخاذ مواقف موحَّدةٍ، أو تشكيل جبهةٍ متماسكةٍ..  كما هو الحال الآن في الساحة العربية.. ويهمُّنا هنا أنْ نقول: إنّ البيت السياسي العربي منقسمٌ على نفسه.. وبالتالي فإنَّ الفكر أو العقل العربي يفتقر إلى الانسجام والوحدة.. وذلك لأنَّ الفكر يختلف- بكلِّ أسفٍ – من دولةٍ إلى أخرى باختلاف الأيديولوجيات والأنظمة السياسية.. وهذا – في اعتقادي- هو سبب ضعف البناء الداخلي.. وأيضا هو السبب في صراع الفكر بدلا من الحوار.. وفي تباين الأيديولوجيات بدلا من ائتلافها.. يقول أحد المفكرين العرب في ورقته التي قدمها لأحد المنتديات الفكرية العربية: ” عرف الوطن العربي على امتداد تاريخه نوعياتٍ مختلفةً من المفكرين.. مختلفين لا من حيث التوجهات الفكرية، ولكن من حيث التوجهات الأخلاقية، والالتزامات المبدئية فكان منهم “الشهداء” وكان منهم “العملاء”، كما كان منهم “البلهاء” و”الأشقياء” و”الخوارج” و”المعتزلة”.. وكان منهم من تحوّل وتجوّل بين هذه النوعيات. وعلى الرغم من قسوة هذا الرأي إلا أنّه يبدو هو “التشريح” والتشخيص الحقيقي لواقع الفكر العربي.. وهذا الاختلاف في الغالب ينعكس بدوره على الساحة السياسية، ويتمخّض في تحرّش الأنظمة السياسية ببعضها.. بل وعداوة بعضها للآخــر إلى درجــة التهديــد والاجتيــاح.. ومن هذا المنطلــق لا بـــدَّ من محاكمة “العقل العربي” أو بالأحرى المفكر العربي لأنّه- بلا شكٍّ-  هو مسئولٌ أولُ عن ظهور الديكتاتوريات العسكرية  على الساحة العربية..

إنّ المفكرين العرب – أو على أحسن افتراضٍ أغلبهم – حادوا عن الدور الأساسي في التوعية وتربية وتبصير الجمهور، وفي خلق الشعور الموحد والهدف الموحد.. حادوا عن ذلك إلى ممالأة العسكر وتحقيق مآرب ذاتية.. ولم تشهد “الصالونات العربية الفكرية والثقافية” أيّةَ لقاءاتٍ ذات قيمةٍ علميةٍ أو اجتماعيةٍ تضم قادة الفكر والرأي على مستوى العالم العربي .. تلك اللقاءات التي تتّسم بالصراحة والموضوعية, والتي يسمو فيها الحوار عن “النزعات” السياسية والالتزامات الأيديولوجية، والأهواء الشخصية.. ومعظم اللقاءات التي عقدت في وطننا العربي مثل (مهرجان المربد) كانت قاصرةً على اتجاهاتٍ فكريةٍ معينةٍ، تربطها قاعدةٌ أيديولوجيةٌ واحدةٌ.. ولا أذكر أن التقى علماء وأدباء ومفكرو العرب على اختلاف اعتناقهم وتوجهاتهم في “قاعةٍ” واحدةٍ من أجل التحاور والتشاور حول كيفية ترقية الفكر السياسي، وتطوير “العقل الجمعي”، ومن ثم تطوير الواقـــع العربي في مختلف مجالاتــه العلميــــة والثقافيـــة والاقتصاديـــة وما إلى ذلك.. لأنّه ليس هناك- بكلِّ أسفٍ -“مظلةً” واحدةً تجمع مفكري وقادة الرأي ليخططوا من أجل مستقبل الأمّة .. فنحن- كما قال وليم رايت- ” شتات”!! وهذه حقيقة قاسية يجب أن نقرَّ بها.. فيما إذا سلَّمنا بأنَّ الاتفاق حول السلبيات والإخفاقات هو الخطوة الأولى في مسار معالجتها.. ونتائج “التشخيص” هي بداية الطريق إلى “طاولة” الطبيب.. في الطريق إلى العلاج ثم العافية..

وإذا حاولنا – في هذه المقالة – أن نجد العذر لمفكرينا وعلمائنا في مواقفهم المتسمة بالسلبية.. وفي أدوارهم ووظائفهم الضعيفة والمثبطة فإنّ “الصحائف” أو الملفّات السياسية ستكشف لنا بأنّ كثيراً من الأنظمة العربية في الفترة منذ نهاية الخمسينيات وحتّى نهاية السبعينيات (فترة الموضات الثورية) قد اعتمدت منهج “الفكر الجماعي الملتزم”’ القائم على التأييد المطلق، أو الصمت الحذر والمرتعش داخل الخلية السياسية في الجسم السياسي “العظيم”.. وسنجد أنَّ المفكرين والكتّاب انخرطوا بجانب العامة والغوغاء في مستويات التنظيم المختلفة يتفنّون في مناهــج التضليل.. ولعلنا نجــد العــذر أيضا لجمهور العامـّــة ذلك أنَّ سلوكياتهم لم تكن أكثر من نتيجــةٍ لتضليل معظم رجال الفكر والإعلام.

وعلى العموم فإنَّ المفكرين العرب – دون مغالاة منا – استسلموا إلى منهجية “الإلزام السياسي” التي ابتدعها بعض القادة العرب وطبقوها عبر أطرٍ سياسيةٍ محددةٍ.. واعتمدت فلسفة مثل هؤلاء القادة في الغالب على حصار الشعوب بـ “تكتيك” سياسي استطاع أن يحجب الرؤية ويقنع العامة بجودة الرديء، وبجمال القبيح، وبعدالة الظلم .. وظَلَّ العامة “أسرى” لهذه الشعارات فتراتٍ طويلـةٍ.. وكلُّنا نذكر أيام الغليان الثوري.. أنَّها مسألــةٌ أشبه بـ “التنويــم المغناطيسي”.. وللأسف فــإنّ المفكرين وقادة الرأي هم “الأداة” التي تولّت أطروحات هذه الفلسفة الغريبة.. وتبنّت عملية نشرها وترسيخها.. فصدّقها العامّة.. وعملوا على تجسيدها في واقع حياتهم اليومية.

إنَّ الأمم المتقدمة لم يقدر لها الوصول إلى القمّة إلا بعد أن اعتمدت الصدق والحق والحقيقة في أقوالها وأفعالها.. ليس فقط في الحقبة المعاصرة، وإنما أيضا في العصور الغابرة.. ولن أنسى ما قاله لي أحد أساتذة الإعلام الأجانب ذات مرّةٍ حول التعامل مع العرب، قال: إنه يجد صعوبةً بالغةً في التعامل مع العرب، ليس فقط من خلال إعلامهم ولكن حتى أثناء الاتصال الفردي.. فهو – على حد قوله –  يجد تناقضا واضحا في الأقوال، وفي سرعة تغيير المواقف والآراء، واختلافا بين الفعل والقول.. واعتقد أنّ الرئيس الأمريكي (جيمي كارتر) قد ذكر شيئا حول هذا المعنى في فصل من مذكراته.. خصصه لوصف تعامله مع العرب خلال فترة رئاسته (1976- 1980م).. وبصرف النظر عن البعد الثقافي في الحضارات المختلفة واختلاف الرؤى وفقا للانتماء الحضاري، إلا أنّ بعض سلوكيات العرب تؤيد الأقوال السابقة.

 وعلى الرغم من أننا أشرنـا في وقتٍ سابقٍ إلى ضرورة محاكمة العقل العربي والثقافة العربية، إلا أنّه يبدو من الصعب إجراء مثل هذه المحاسبة نظرا لما تحمله الثقافـة العربية من مضامين تراكمية تدخلت في الصياغة النهائية لما هي عليه الآن، ويصعب أيضا تعليق كل الأخطاء على الفكر والثقافة وحدها، فالقضية ذات أبعادٍ أو أضلاعٍ ثلاثةٍ، يتحمل كلُّ ضلع جزءا منها، فالفكر والسلطة والمجتمع يمثلون أضلاع المثلث.. والحديث عن دور كلِّ ضلع في الحفاظ على بنيان سليم للأمة يحتاج إلى الكثير من الدراسات البحثية من أجل الوصول إلى نتائج مؤكدة يقوم عليها العلاج.. وتكشف لنا الاستقراءات المتأنية للتاريخ العربي المعاصر وواقعه أنّ هذه العوامل الرئيسيــة الثلاثـــة هي التي تصنع وتشكل الواقع العربي بكل ما يمر فيه من أخطاء وتناقضات وخصومات.. وأنّ هذه العوامل تدخلت بطريقٍ مباشـرٍ أو غير مباشرٍ في دفع الأمة العربية إلى متاهاتٍ مظلمةٍ، وأنفاقٍ طويلةٍ معتمةٍ.. فإذا أخدنا قادة الفكر – من بين العوامل الثلاثة – مثالا خاطفا للتدليل على دورهم في إخفاقات وإحباطات أمة العرب فسنحاول إخضاع إسهاماتهم خلال خمس سنواتٍ على معايير تحليل المضمون.. لنقرأ هذه الإسهامات بعيدا عن معامل الأبحاث، وسنجد أنّ بالإمكان الوصول إلى النتائج من القراءات الأولى.. وأكاد أجزم بأنّنا سنطالب بمحاسبة هؤلاء الذين يتربعون على منافذ ومنابع تكوين الفكر والرأي العربي.. وسنحمِّلهم الكثير من المسئوليات.. فصدام حسين مثلا وجد صمتا أو تبعية مطلقة من مفكري ومثقفي الداخل، وخمولا (أو غض نظر) وتطبيلا أحيانا في الخارج، ضمن الصمت من المتهيبين، والتطبيل والتأييد من المنتفعين فاستثمر الفرصة إلى نهايتها.. وعلى الرغم من ذلك فإنّ الفكر العربي – على ما يبدو- لم يكن قادرا على استقراء تاريخ الرجل وفداحة فعله الداخلي.. لقد عجز هذا الفكر، لأنّه فكرٌ انفعاليٌّ لا يرتكز على مقوماتٍ ثابتةٍ.. ولأنّه – ولنقل بعضه- يسير بطريقةٍ أو أخرى وفق حسابات المصلحــة.. لقد وقعــت النسبة الكبرى من هذا الفكر – عمدا أو عن غير عمد – في فــخ (الممالأة).. هذا (الفخ) الذي يقوم على المجاملات والزيف والكذب والخداع.. وبالتالي يمكن أن نسمّي هذا النوع من الفكر بفكر التضليل الذي يخادع نفسه أولا ثم يخادع القيادات والمجتمع.

لقد استطاع صدام – بكلِّ أسفٍ – استخدام بعض العلماء والمفكرين والمثقفين لخدمة أهدافه ونظامه العجيب.. ونتيجة لذلك قويت شوكته ومن ثم زادت أطماعه.. ويقول أرسطو: ” كلّما شعر الناس أكثر بأنّهم أقوياء كلّما كبرت أكثر شهيتهم للسيطرة…” استهوت الرجل أحلام القومية واقتسام الثروات فبــــدأ بإحـدى جاراتـــه الصغيرات معتمدا على مبــدأ “البقاء للأقــوى”.. ورصــدا للسياســـة “الوبائية” الحديثة لصدام نقرأ مع (جان جاك شوفالييه) وهو يحلل سياسات الطغاة: “أنّ الطريقة القوية والعنيفة لأقصى حدٍّ، تتضمن مجموعة كبيرة من الوسائل المتعددة منهجيا، والتي تستجيب لأهداف النظام الطغياني الثلاثة وهي:

أولا: إذلال نفوس الرعايا، ثانيا: بذر الريبة فيما بينهم من أجل تجنب المؤامرات التي تفترض وجود ثقة متبادلة بين المتآمرين ( وفي نفس الاتجاه شن الحرب على الشرفاء لأنهم الأكثر خطورة)، ثالثا: إبقاؤهم في حالة عجزٍ وعدم مقدرةٍ على التصرف..

إنّ الطاغية الذي يتبنى هذا الخط السلوكي يحرص على أن يعادل بين أفراد النخبة، وأن يقضي على النفوس العالية، ويطلق العنان لمطاردة الثقافة العالية، ويمنع المواطنين إلى أقصى حدٍّ ممكنٍ من التعرف على بعضهم البعض، ويجبر الأعيان والكبار على العيش تحت إشرافه، ويستعمل عددا من الجواسيس والجاسوسات والمراقبين والمستمعين، ويفقر الرعايا حتى لا يكون لديهم وقت للتآمــر.. ويثير -أخيرا-  الحروب، وهي طريقة أخرى لشغل الرعايا، وليجعلهم في الوقت ذاته يشعرون باستمرار بالحاجة إلى الرئيس.

ويرى مكيافيللي أنّ الحرب تندرج مثل أكثر الظواهر الطبيعية ضمن معطيات حياة الغابة السياسية نفسها.. وأعتقد أنّ هذا ما فعله صدام حسين في العراق سواء على المستوى الداخلي أو بشن حروبه الخارجية.. وإذا استطردنا في الحديث عن دور القيادات الضالة في قيادة شعوبها إلى داخل أنفاقٍ مظلمةٍ، ومن دورهم في قهر الفكر وترويض المفكرين وإرهاب العامة نقرأ للدكتور سعد الدين إبراهيم: “ومنذ هزيمة العرب على يد إسرائيل عام 1967م وطوال السبعينات وأوائل الثمانينات اتضح عجز حكام وزادت الهوة بين الحاكم والمجتمع والمفكر، هوة الشك وعدم الثقة والخوف المتبادل…”.

وعلى أية حالٍ يبدو من هذا الاستقراء للواقع أن سبب التخبط السياسي والبلبلة الفكرية، وبروز بعض الظواهر السياسية الغريبــة في سمائنا العربية يعود إلى القيادة وإلى المفكرين.. وأعتقد أنها مسئولية مزدوجة قادت العالم العربي إلى التفكك والشتات على الرغم من المعطيات الحضارية والدينية التي تهدف إلى التضامن والتكامل، وإلى بناء مجتمع أخلاقي، وحضاري متماسك وراسخ في ظل حضارات مادية استهلاكية ومتهافتة.. إنّ مواجهة المفكر للطغيان لم تتخذ الطابع الإيجابي الذي يدفع الجمهور إلى المشاركة، كما أنّ سلبية المفكرين قعدت بدورهم في تنوير وقيادة الرأي العام، وبالتالي فإنّ الجماهير ظلّت في معظم الدول العربية عاجزةً عن إدراك منفعتها.

وإذا كان هناك بعض القيادات العربية التي وظفت سلطتها في خدمة المنفعة العامة والتطور الشامل فقد استطاعت إلى حدٍّ كبيرٍ إيجاد مظلةٍ آمنةٍ للمفكرين والعلماء وهو الأمر الذي مكّن هؤلاء المفكرين والعلماء من تكثيف نشاطاتهم العلمية والفكرية والثقافية مما دفعهم للإنتاج والإبداع.. وذلك على العكس تماما مما نراه من علاقة متذبذبة بين بعض القيادات العربية وبين أصحاب العلم وأرباب الفكر الأمر الذي أسهم – في رأيي – بشكل كبير في صناعة هذا الواقع العربي المرير.

إنّ الفكر إذا أزدهر في بيئةٍ صحيةٍ ومعافاةٍ، فإنّ النتيجة ستكون تطورا ملحوظا في شتّى مجالات الحياة بدون استثناء.. ومتى تكاملت العلاقة بين القيادة السياسية وقادة الفكر والرأي فإنّ ذاك حتما سيأخذ بالمجتمعات إلى أزهى وأرقى المواقع.. وفي ظلِّ البيئات السليمة تتحد – عادة – الآراء والمواقف والمشاعر والتطلعات، ويلتف الجميع حول هدفٍ واحدٍ، ومصيرٍ واحدٍ.. والتاريخ العربي الإسلامي يشهد بتكامل الفكر والسلطة لصالح المجتمع، ولصالح الاعتقاد الواحد، والمصير المشترك.. بيد أنّ الواقع العربي يبيّن – بكلِّ أسفٍ – أنّ الهموم والإرادة العربية تتقارب وتتباعد في إطار حركة الانفعالات العاطفية والنفسية للعرب.. وهذه حقيقة تؤكدها جميع الوقائع على الساحة العربية.. وهي ما سمّيناه في صدر هذه المقالة بـ (عداوة الذات).. ولا شكَّ أنّ هذه ( العداوة) هي المسئولة عن ما وصلت إليه الأمة العربية من مأساةٍ مؤلمةٍ بعد غزو العراق للكويت.. وقد يصعب – على الأقلِّ في هذا الواقع الذي وجد العرب أنفسهم فيه – استقراء المستقبل، أو إسقاط بعض الضوء الذي يمكن أن يبدد -ولو جزءا- هذا الظلام الحالك.. ولا أود أن أقحم نفسي بأي حال من الأحوال في صفوف المتشائمين الذين دفعهم الإحباط إلى حافة اليأس، حتى فيما إذا كان مدلول كلمة (أمة) سوف يستمر- فعلا – صفة صالحة لكلمة (عرب) أم لا.

ومهما يكن فلن يصل الأمر إلى حدِّ التنكر للثوابت الدينية والتاريخية والاجتماعية التي تعتبر- مهما تناسيناها – روابط متينةً، لا يمكن أن تنفصم عراها.. هكذا بفعل نزواتٍ عابرةٍ أو مخططاتٍ حاقدةٍ.. ولكنّنا في الوقت ذاته لا ننكر أنّ الصورة الكاملة لهذه الثوابت تتأثر بل وتتشوه معالمها كلما أعاد العرب سلاحهم إلى نحورهم.. ويحدثنـا تاريخ النصف الأول من هذا القرن أن الحرب العالمية الثانية أسفرت عن تقسيم ألمانيا إلى شرقيةٍ وغربيةٍ.. إلى دولتين بأيديولوجيتين مختلفتين، وتتناصبان العداء.. وساد اعتقاد – بل وترسّخ – بأنّ هذا الوضع حدث ليبقى.. وأنّ عودة الألمان إلى بيتٍ واحدٍ أصبحت ضربا من الخيال.. وحتى قبل عامين فقط من الآن لم يخطر ببال عتاة الساسة، وكبار المؤرخين والمحللين بأنّ سور برلين سوف ينهار، وأنّ ألمانيا ستتوحد.. وأن الخصومة والعداوة الألمانية الألمانية التي دامت أكثر من خمسة وأربعين عاما ستصبح ماضيا أو تاريخا للرواة.. لقد تجاوز الألمان خلافاتهم الأيديولوجية.. وقفزوا فوق الخصومات، وانطوت صفحات العداوة.. وفتحوا صفحة جديدة وكتبوا عليها تصحيحا لمجرى التاريخ..  وأصبحوا شعبا واحدا تحت مظلةٍ واحدةٍ.. والعبرة هنا ليست بما حدث، ولكن منطق الحقيقة يؤكد أنّ الأمم والشعوب مهما تفكّكت وعانت من التمزيق والضياع بسبب أفعالٍ حاقدةٍ، أو مغامراتٍ مجنونةٍ، أو خبيثةٍ جاهلةٍ أو غبيةٍ مغرورةٍ لا بدَّ من أن تنتصر على كلِّ أسباب التمزق، وتعود – وهي أقوى – لتصحح مجرى التاريخ.. ولعلّ مما يولد المرارة، ويجسد الحزن أنّ يكون العرب هم خصوم أنفسهم.. وتأتي أفعالهم في إطار “عداوة الذات”.. عداوة العربي للعربي.. فالمبادأة- كما جاء في صدر هذه المقالة- تأتي في معظم الأحيان من الداخل لا من الخارج ويصبح الإيذاء صناعة داخلية بكاملها.

إنّ مغامرة صدام الطائشة التي زلزلت الشارع السياسي العربي، وأصابته بـ “صدمةٍ” عنيفةٍ قد تم تصميمها محليا وفقا لهندسة قام بها طامعٌ حقودٌ.. ولذلك كان الجرح عميقا، وكانت المأساة كبيرةً بسعة الساحة العربية.. ولعلّ أقلّ ما ستتمخض عنه هذه “الصدمة” الهائلة هو التشكيك في الذات، والإحباط، والشعور بالانكسار والخيبة، مما قد يؤدي- بكلّ أسفٍ – إلى ضعفٍ عام في حسِّ وعاطفة وفكر الأمة.. وأهم من ذلك افتقاد الثقة في الذات.. ومتى وصلت الحالة إلى مثل هذا الواقع فإنّ العوامل الرئيسية في حياة البشر ( الاحترام والكرامة والقيمة والقدرة على العطاء) لن تكون قادرة على البروز إنْ لم تصبح صفات بدون معنى في ساحة الفعل.. ونضيف إلى ذلك سهولة اختراق الأمة، والتحكم في مقدماتها وأفعالها من قبل القوى المعادية.. بيد أنّ ما يثير على التفاؤل أنّ تجارب أمتنا مع الصراع تشير إلى قدرتها على الوقوف من العثرات.

وعندما حدثت الهزيمة عام 1967م في حربنا مع إسرائيل اعتقد كثيرٌ من المحللين- على مستوى العالم – أنّ هذه الضربة المؤلمة والموجعة ستقفل أفواه العرب، وأنهم سيحتاجون إلى عشرات السنين كي يستعيدوا القدرة على الكلام قبل الفعل..، ذلك أنّ الهزيمة تجاوزت الإطار المادي إلى الذات.. وهزيمة الذات تصيب الثقــة في مقتل ومن ثم يتولد الضعف والانكسار والذلة.. ومهما قيل عن تلك الهزيمة إلا أنه ليس ثمّة شبه بينها وبين ما يحدث على الساحة العربية الآن بعد غزو العراق للكويت.. فحرب 1967م كانت عربية إسرائيلية، ولم تكن عربية لأخ عربي.. وبصرف النظر عن إرهاصــات تلك الحرب وملابساتهــا وما صاحبهــا من اندفاعٍ قولا وفعلا إلا أنّ ما ترتب عليها من ذلٍّ وانكسارٍ كان يمكن تبريره أو إيجاد بعض الـتفسيرات التي تخفف من وطأته رغم غور الجرح..

ولعلَّ هذا ما جعــل العرب يقفون مرّة أخرى على أقدامهم ويكذبون تنبؤات المحللين الذيــن قالـــوا إن العرب يحتاجــون إلى زمــنٍ طويلٍ حتى يستردوا جزءا من عافيتهم.. لقد جاء عام 1973م ليدحض هذه التخرّصات، وليثبت للعالم أجمع أنّ هذه الأمة لا تطيق البقاء في مواقع العثرات، وأنها ما أن تكبو حتى تنهض وهي أكثر قوةً.. ومع هذا يبدو لنا أنّ قدر هذه الأمة ينحصر في مواصلة الصراع مع ذاتها بين الفعل الخاطئ والفعل الصواب.. بين الهزيمة والانتصار.. بين التهور ورجاحة العقل.. وهي عندما تتعامل مع هذا ( القدر) في مواجهة خصوم أساسيين أو ثانويين من خارجها فإن ذلك يجعل الخطوط الفاصلة بين الصواب والخطأ ضعيفة الوضوح.. كما أن حماس المواجهة المشحون بالعاطفة- كعادتنا نحن العرب- يحول دون الرؤية الصحيحة للأشياء.. فنحن- كما يؤكّد ديوان العرب- عاطفيون، مندفعون في رضانا وفي غضبنا.. وبين هذا وذاك قد تحيد خطواتنا عن جادة الصواب.. والذين يعودون إلى قــراءة تاريــخ المعارك العربية مع غير العرب يجدون أنّ العقليــة العسكريــة العربيـة مسئولة عن هزائمها أمام أعدائها، ولكنّها سرعان ما تنهض وتعمل على إعادة ترتيب الصفوف، وهندسة البناء لتصبح قادرة على المواجهة والانتصار..

وحينما قام السادات بزيــارة إسرائيــل، وبــدأت مرحلة أخرى من الفرقة العربية ظنّ العالم- مرّة أخرى- عدم قدرة الأمة على تحقيق أدنى حدٍّ من التماسك، أو على الأقلِّ ذلك التقارب الذي يمكن أن يسمح بالحد الأدنى من التوافق في بعض وجهات النظر.. وكانت كلُّ المؤشرات – بعد تلك الزيارة- سوداوية مستقبل الأمة العربية.. لقد تفرقت الأمة أحزابا وعشائر وجبهاتٍ من (صمودٍ) و (رفضٍ) و (قبولٍ).. وصاحبت كلَّ ذلك تبريراتٌ و (عنترياتٌ) وتحدياتٌ ومقاطعاتٌ.. بيد أنّ الأمر لم يصل إلى حدِّ درجة التنكر للذات، ومغالطة التاريخ والمعطيات الموضوعية.. وعاد العرب يلملمون جراحهم.. ويتجاوزون أخطاءهم.. واقتربت خطاهم والتقت في اتجاهٍ واحدٍ.. وساروا نحو مصيرٍ واحدٍ.. وقد وصل هذا التقارب إلى ذروته في القمة التي أطلق عليها العرب (قمة الأمن العربي) أو (قمة الأمن القومي) التي انعقدت منذ مدةٍ قصيرةٍ في بغداد.. وكانت قمة شهيرة اغتصبت تصفيق الجماهير العربية وإعجاب الأصدقاء.. وأثارت حسد الحاسدين والأعداء.. لقد صفقنا لهذه القمة كثيرا، وفرحنا بها.. ولا غرو إذا اعتقدنا حينها أنها خطوة أولى في مسارٍ جديدٍ نحو الوحدة والكرامة والعزة العربية، بعد أن طوقتنا الظروف العدائية والخصومات من كلِّ جانبٍ.. فماذا حدث بعد أن بلغ الفرح مداه عقب هذه القمة؟! وماذا بعد أن ملأ الأمل جوانحنا وأعاد إلينا الثقة والاعتزاز بالنفس..؟؟

حدث ما لم يكن في الحسبان.. “صدمةٌ” كبيرةٌ جدا أحدثت شروخا هائلة في الوجدان العربي، اجتاحت العراق (بليل) جارتها الكويت.. وتباينت مواقف العرب مرةً أخرى إزاء هذا الحدث الذي جاء ليقوض كل صروح الفرح.. ويغتال الثقة.. ويسحق ( براعم) الأمل في عناق الأخوة والأحبة في طريق العروبة والإسلام.. لقد جاء هذا الاجتياح ليغتال الأمن في وطننا العربي، ويخلق تمزقا حادا في الشارع العربي، ويحرك الشعوب ضد بعضها بعد أن اختلفت الولاءات والمواقف العربية في ظل اتفاقٍ عالمي حول (بشاعة) الحدث.. وأعتقد أنّ الأمة العربية تدخل الآن إلى أشــد المراحل خطرا، وأعمقها أثــرا من كل المراحل الأخرى التي وقف فيها العرب يتراشقون بالكلمات والبيانات عبر وسائلهم الإعلامية “الرسمية”.

ولكن فإنَّ الظلمة مهما اشتـدت، وجللت سماء العروبة يبقى هناك الأمل الكبير في أن تعود الأمة إلى سماحتها.. أذكر أنّ صحفيا غربيا قال لي ذات مرة- وهو يحلل مواقف العرب إزاء أزمة الخليج-: إنّ أثر هذه الأزمــة على الإنسان العربي لن يستمر كثيرا بعد أن تعود الأوضاع إلى طبيعتها, واستدل على ذلك بالتركيبة النفسية والسياسية للعالم العربي، وبهشاشة الذاكرة العربية التي لا تحتفظ بالأشياء طويلا.. وأكد- بناءً على ملاحظاته عبر تجارب الخلافات العربية- أنّ العرب لا يتجاوزون في تعاملهم إطار اللحظة حتى في أعقد الأمور وأصعبها.. ويقول: إن الشعوب التي تتعامل مع اللحظة لا يمكن أن تحسب أي حساب لخطواتها المستقبلية.. ويصعب التنبؤ بتحركاتها.. كما أنّ بالإمكان- كما دلّت التجارب- استثمار اللحظة في الحياة العربية بما يؤدي إلى نسيان الماضي، وعدم التفكير في أي خططٍ  للمستقبل.. وعلى الرغـم من أنّ هناك بعض الصحة في قول هذا الصحفي الساخر إلا أنّه يصعب حقيقة الحكم على أمّةٍ ما من حدثٍ أو اثنين أو ثلاثةٍ.. والتاريخ المعاصر ليس دليلا يمكن الاستناد عليه عند تقويـم الواقع العربي.. ولا أعتقد أنّ هذا المقال يسمح بالحديث عن حقبة الاستعمار في هذا التاريخ المعاصر، وعن الظروف التعليمية والاقتصادية للعالم العربي.. ولكن لا بدَّ من أخذها في الاعتبار عندما نتحدث عن الأمس ونفكر في اليوم.

صحيحٌ أنّ الغزو العراقي للكويت كان ” صدمةً” عنيفةً وطعنةً في القلب غائرةً.. وإنّ الشفاء من هذه “الصدمة”.. وتطبيب هذا الجرح سيأخذ وقتا طويــلا يتجاوز فترة الاستشفاء والنقاهة من الجراح السابقة.. فالطعنة هذه المرة من يد أخٍ.. جاءت الطعنة ممن تشدق بالقدرة على تحمل مسئولية إعادة “الشرف العربي”، والعمل على تحقيق الوحدة والتضامن.. ثم- وهذا هو المهم- صحا العالم العربي فجأة على تناقضاتٍ عجيبةٍ، ووجد نفسه في بؤرة الحيرة، وفي ساحةٍ شاسعةٍ من الضياع فاقدا القدرة على تحديد الاتجاهات، ووجد خطاه تتعثّر، وتحاول أن تتلمس الطريق وسط ظلمةٍ حالكةٍ ومهلكةٍ.

وأخيرا نخلص إلى أنّ الواقع العربي لن يتطور إلا إذا اعتمدنا الفكر قاعــدة لهذا التطور.. فالعواطف، والانفعالات، والولاءات غير الناضجة هي السبب في الحدِّ من حركة التطور.. كما أن تكامل الفكر والسلطة والمجتمع هو الأساس في ضمان بيئةٍ معافاةٍ تتيح إمكانية الإبداع والتطور.. ويتصاعد هنا دور الفكر الإعلامي على وجه الخصوص في أحداث التقارب بين المفكر والسلطان من جهة، وبين الاثنين والمجتمع من جهة أخرى.. وعلى المفكر والإعلامي يقع عبء التناغم والتآلف بين الأنظمة السياسية والمجتمعات، وإلا فإنَّ الكلمة “المحبة” ستتحول إلى الكلمة “القنبلة”.. ولا شكَّ أنَّ صياغة المشاعر والأفكار وتوحيدها تعتبر من “أبجديات” العمل الإعلامي، وهي الأمانة التي يجب أن يتحملها الإعلامي بتجردٍ كبيرٍ مهما كانت التضحيات.. لا بدَّ من صدق تعامل الفكر والرأي مع القيادات ولا بدَّ من تحمّل الفكر لمسئوليته تجاه المجتمعات.. فهل تشهد الساحة العربية بعد هذه “العداوة الذاتية” انفراجا أسريا، ويتغلب العقل على العاطفة.. ويلتقي الجميع، مفكرين وعلماء وساسة وفقهاء حول “مائدةٍ فكريةٍ” واحدةٍ، ويحاولون تقنين العلاقة فيما بينهم، والتخطيط لبناء مستقبلٍ آمنٍ، وبناء وحدةٍ متماسكةٍ وقويةٍ في عالمٍ يتجه نحو “التكتلات الاقتصادية”، وفي عصرٍ تتنازعه المصالح.. أرجو ذلك.. والسلام.

د. ساعد العرابي الحارثي

 

زر الذهاب إلى الأعلى