محاضرات عامة

الإعلامُ والشّائعات وأساليب المواجهة

1421هـ -2000م
صنعاء

– ( يا أيُّها الذينَ آمنوا إنْ جاءكم فاسقٌ بنبأ فتبيَّنوا)-

هذا هوَ في البدءِ موقفُ الإسلامِ من الشّائعةِ، وهو التَّحقُّقُ والتَّثبُّتُ, والشّائعةُ هي الحديثُ أو القولُ أو الخبرُ أو الروايةُ يتناقله النَّاسُ دونَ التَّأكُّدِ من صحّته، ودون التَّحقّقِ من صدقِهِ, فالنّاسُ يميلون إلى تصديقِ ما يسمعونه دون محاولةِ التأكّدِ من صحّتِهِ ثم يروونه للغيرِ، وقد يضيفون إليهِ بعضَ التّفصيلاتِ الجديدةِ.
كما يعني (مصطلحُ الشائعةِ) تحويرَ خبرٍ ما عند نقلِهِ بالإضافةِ عليه ما ليس فيه, وعلى ذلك فالشائعةُ ليست إلا روايةً تُحكَى من أجلِ أن يصدّقَها من يسمعُها، وليس مهمّا أن تكونَ صادقةً.
والمعروفُ أنّ الشّائعاتِ تنتقلُ وتنتشرُ كلّما ارتبطت بأشخاصٍ أو وقائعَ مهمّةٍ, وكلّما ازدادَ الغموضُ حول الوقائعِ التي تتناولها الشّائعةُ.
وللشّائعةِ ما يعرفُ بسلاسلِ الشّائعةِ وهي تلكَ التي اصطُلحَ على تسميتِها عندما تنطلقُ الشّائعاتُ على حلقاتٍ متصلةٍ في أنواعٍ وأشكالٍ متعدّدةٍ، وفي فترةٍ زمنيةٍ محدّدةٍ.
وقد استحدثَ في الولاياتِ المتحدّةِ الأمريكيّةِ ما يعرف بعياداتِ الشائعةِ ” RUMOR CLINCS ” حيث يجري تحليلُ الشّائعةِ لمعرفةِ مصدرِها، ونوعِها، واقتراحِ أسلوبِ الردِّ عليها.
وللشّائعةِ – دائما – من يرويها، وينشرها، ويسعى بها بين النّاسِ لتعمَّ وتنتشرَ وتملأَ الآفاقَ، وتزدحمَ بها كلَّ المجالسِ، وتنطقَ بها كلَّ الألسنِ، ومروّجُ الشّائعةِ، هو الشّخصُ الذي يقومُ بنشرِ الشّائعةِ بين النّاسِ، ومن يقومُ بهذا العملِ، سواء كان فردا أو جماعةً، يهمّه أن تنتشرَ، وأن تعمَّ، وتشغلَ أذهان العبادِ، وقد يقدمُ على هذا العملِ لاعتباراتٍ شخصيّةٍ ونفسيّةٍ تتعلّقُ به شخصيّا, كأن يطلقُ شائعةً ضارّةً تتعلّقُ بشخصٍ يعاديه، أو ينافسُه، أو يتضرّرُ هو منه, إضافةً إلى الرغبةِ في إثارة الخوفِ والفزعِ, وما إلى ذلك من أسبابٍ وحوافزَ يراها ذلك الإنسانُ مبرّرةً للقيامِ بذلك العملِ الذي ليس له ما يبرّره بمقاييسِ العقلِ والعدلِ.
وتلعبُ العواملُ النفسيةُ وربّما العاطفيةُ دورا كبيرا في انطلاقِ الشائعةِ التي هي في ذاتها نوعٌ من أنواعِ الحربِ النفسيةِ, وكما نعلمُ فإنَّ الحربَ النفسيةَ من أقسامِ الحربِ التقليديّةِ الهامّةِ.
إنّ الشائعةَ عملٌ مضرٌّ لا يقتصرُ ضرره على الأفرادِ بل قد يشملُ المجتمعَ كلَّه، ولا ينحصرُ أثرها في فئةٍ دون أخرى أو أفرادٍ دون آخرينَ, بل قد يشملُ أهلَ الفقهِ والفنِّ والسياسةِ والاقتصادِ والثقافةِ، فالشائعةُ لا تستثني أحدا ولا أحدَ يسلمُ من شرورها, كما لن تتوقفَ بواعثها وأسبابها طالما هناكَ تنافسيّةٌ في الحياةِ ومصالحٌ متداخلةٌ، وغيرةٌ، وسوءُ قصدٍ ونفوسٌ مريضةٌ تسعى لتحطيمِ صورةٍ مثاليةٍ عن إنسانٍ أو مجتمعٍ تعاديه.

أنواعُ الشائعةِ
تتعدّد أنواع الشائعاتِ تبعا للمواقفِ والدوافعِ, فمنها شائعة الرعبِ وهي التي تستهدفُ بثّ الخوفِ في نفوسِ الجنودِ أو المدنيين أيام الحروبِ بحيث يدفعهم بثّ تلك الشائعاتِ إلى الهروبِ أو اليأسِ أو التسليمِ.
وهناك شائعةُ الكراهيةِ التي يسعى البعضُ لنشرِها بين أفرادِ مجتمعهم, وهو تعبيرٌ يستخدمُه من يروجون الشائعاتِ الحاقدةَ ضدَّ بلدانهم حتّى في أيامِ السلمِ.
وهناك شائعاتٌ تتعلّقُ بالأوبئةِ والأمراضِ وانتشارِها وخطورتِها وتخويفِ الناسِ منها، أو ومن استعمالات بعضِ الأشياءِ في الحياةِ اليوميةِ، وتشملُ الشائعات التي تتعلّقُ بأضرارِ سلعةٍ ما.
إضافةً للشائعاتِ التي تنتشرُ عن حدوثِ زلازلٍ أو كوارثَ بيئيّةٍ إلى غيرَ ذلك من ما يثيرُ البلبلةَ والفزعَ والترويعَ للناسِ الآمنين في دورهم، وبلدانهم.
ومن أنواعِ الشائعاتِ كذلك: تلك التي تتعلّقُ، بسوءِ السيرةِ، والتي ينطلقُ سببُها من عداوةٍ ما بين إنسانٍ وآخر، أو بينَ دولةٍ وأخرى، أو بسببِ المنافسةِ بين المشاهيرِ من رجالِ الفنِّ والرياضةِ والصحافةِ والتجارةِ, ويشملُ هذا النوعُ من الشائعاتِ كلَّ المجالاتِ والمهنِ التي تجمعُ ممارستُها بين المنافساتِ أو الصراعاتِ سواءً المستترة أو الجليّة.
كما أنّ هناكَ نوعا آخر من الشائعاتِ، وهو ما يسمّيه العلماءُ بالشائعاتِ الورديةِ، أو الحالمةِ أو المتفائلةِ، وهي الشائعاتُ التي تترجمُ رغبةَ الناسِ في تحقيقِ أمنيةٍ لهم، أو تقريبِ بعيدٍ إليهم، أو “تزويقِ” الصورةِ الكالحةِ التي يشاهدونها، أو الواقعِ المريرِ الذي يمارسونَ حياتهم في إطارِهِ، وتتمثّلُ تلكَ الشائعاتُ في الشائعاتِ الخاصّةِ بقربِ انتهاءِ الحربِ أو نجاحِ الجميعِ في الامتحانِ، أو ارتفاعِ سعرِ سلعةٍ يبيعها الغالبُ الأعمُّ من أهلِ منطقةٍ ما، أو انخفاضِ سعرِ سلعةٍ معيّنةٍ يعاني الناسُ من ارتفاعه.
ومن أنواعِ الشّائعاتِ كذلك شائعةُ الشغبِ وهي تلك التي تهدفُ إلى إطلاقِ الشرارةِ الأولى التي تحوّل حادثةً بسيطةً إلى مظاهراتٍ ومشاجراتٍ وتزيدُ من عنفوانِها.
وهناك شائعةُ (جسِّ النبضِ الجماهيري) التي تستخدمُ لرصدِ ردودِ فعلِ الجماهيرِ تجاه شخصٍ ما أو فكرةٍ، أو معرفةِ اتجاه الرّأي العام.
ومن الشائعاتِ أيضا شائعةُ ( التّبريرِ) وهي التي يقصدُ بها تبريرَ سلوكٍ خاطئ أو عملٍ عدائي أو إجرامي تمَّ ارتكابُه.
أمّا شائعةُ ( حربِ الأعصابِ) فهي تهدفُ إلى زيادةِ حدّةِ التوترِ والقلقِ لدى الجمهورِ المستهدفِ.
ولدينا كذلكَ شائعةُ ( سحابةِ الدّخانِ) وتعني ( الخدعَ) وهي التي تستخدمُ كستارٍ من الدّخانِ لإخفاءِ بعضِ النوايا بهدفِ خداعِ العدوِّ.
وهناك شائعةُ دقِّ الإسفينِ أو الشائعةُ الهدّامـةُ وهي تعملُ على مبدأ فرّقْ تسدْ، أي التفريقِ بين القائدِ وجنوده وبين الحاكمِ وشعبه وبين الحليفِ وحليفه وبين الزوجِ وزوجته عن طريقِ إحداثِ جوٍّ يسوده عدمُ الثّقةِ بين الأطرافِ المختلفةِ.
وتأتي الشائعةُ -أحيانا- على شكلِ النّكتةِ، والغرضُ من هذا النوعِ من الشائعاتِ هو السخرية من فكرةٍ أو شخصٍ أو شيءٍ ما، وهي شائعةٌ هدّامةٌ بكلِّ معنى الكلمةِ بما فيها من نقدٍ لاذعٍ وسخريةٍ جارحةٍ.
أمّا ما يعرفُ بشائعةِ التنبّؤِ فهي الشائعةُ التي تستخدمُ للتنبّؤِ بوقوعِ أحداثٍ عسكريّةٍ أو سياسيّةٍ أو اجتماعيّةٍ في وقتِ الأزماتِ والمعاركِ الكبرى.
أمّا أكثرُ الشائعاتِ انتشارا فهي الشائعةَ الاقتصاديّةَ وتهدفُ إلى إحداثِ حالةٍ من القلقِ والخوفِ والبلبلةِ في السوقِ الماليةِ، خاصّةٍ وقتَ الأزماتِ والحروبِ، وقد تظهرُ في ما تتعرضُ له أسواقُ البورصةِ والنفطِ أو غيره من السلعِ الإستراتيجيّةِ، كما أنّها قد تتعرضُ لمنتجٍ بعينه، مثل ما تعرضت له مطاعمُ ماكدونالدز الأمريكيّةُ من شائعاتٍ تقولُ: إنّها تضيفُ الدّيدان إلى محتوياتِ سندوتشاتها وذلك لتوفيرِ البروتينِ، حيث أدى ذلك إلى أحجامِ الكثيرِ من النّاسِ عن منتجاتِ الشركةِ خوفا على صحّتهم.

خصائص الشائعة
ليسَ كلُّ ما يثارُ حول أمرٍ معيّن يمكن أن يكون شائعةً, فهناك عواملُ وخصائصُ لا بدّ من توافرها لتصبحَ شائعةً, وقد حدّدَ العالمانِ ( فاسن) و (رونسو) وغيرهما من العلماء الخصائص التالية للشائعة:
1. الشائعةُ هي عمليةُ نشرِ المعلوماتِ ونتائجُ هذه العمليةِ.
2. من السهلِ أن تنطلقَ الشائعةُ، وليسَ من السهلِ أن تتوقفَ، فالشائعةُ تسيرُ بسرعةِ النّارِ في الهشيمِ بل بسرعةِ الضوءِ والصوتِ عبرَ الأقمارِ الصناعيةِ في الوقتِ الحاضرِ.
3. قد تكونُ الشائعةُ صادقةً أي تحتوي المعلوماتَ الواردةَ في الشائعةِ على نواةٍ لحقيقةٍ, ومثال ذلك, شائعةٌ حولَ زيادةٍ في رواتبِ الموظفين أو استقالةِ شخصٍ، أو ارتفاعِ أسعارِ مواد استهلاكيةِ أو الهزيمةِ أو النصرِ في الحربِ التي قد تتحقّقُ في بعضِ الأحيانِ.
4. قد تكونُ الشائعةُ كاذبةٍ، أو قد ترتكزُ على معلوماتٍ غيرِ مؤكّدةٍ أو عاريةٍ من الصِّحَّةِ تماما.
5. قد تكونُ الشائعةُ صادقـةً وكاذبةً في الوقتِ نفسه, وذلك مثلما حدثَ في أمريكا عندما قام البيتِ الأبيضِ، بتسريبِ أسماءٍ محتملةٍ وغير محتملةٍ لمرشحي المحكمةِ العليا، كوسيلةٍ لجسِّ النبضِ الجماهيري، أو ردود فعلِ الجماهيرِ حول أسماءِ القضاةِ المقبولين أو المرفوضين, فالجانبُ الصادقُ من هذه الشائعةِ هو أنّ عددا من بعضِ الأسماءِ المحتملةِ كان صحيحا, والجانبُ الكاذبُ هو أنّ بعضَ الأسماءِ كان واردا ترشيحه.
6. تعدُّ الشائعةُ آفةَ الإخبارِ، وكما أنّ آفةَ الأخبارِ رواتُها، فلا بدَّ للشائعةِ من مروّجٍ، ومن مخرجٍ ومن مؤلّفٍ، ثمَّ لا تلبثُ بعدَ أن تكتملَ لها عناصرُ الحبكِ والتأليفِ والإخراجِ أن تنتشرَ كالنّارِ في الهشيمِ.

أضرارُ الشائعةِ
وللشائعةِ أضرارُها، فهي بلا شكّ ظاهرةٌ ضارّةٌ ولا يقتصرُ ضررها عند الأفرادِ أو المجموعاتِ الصغيرةِ وإنّما قد يمتدُّ ليشملَ المجتمعَ بأسرِهِ، وربّما يؤثّرُ على الدّولِ خاصّةٍ في حالِ الحربِ حيثُ يكثرُ اللجوءُ إليها واستغلالها في الحربِ النفسيّةِ التي تتبعها البلدانُ المتحاربةُ نظرا لدورَها الكبيرِ في تخذيلِ الطرفِ الآخرِ، وتشتيتِ ذهنه، وتبديدِ وحدته، وخلخلةِ جبهته الداخليةِ.
والشائعةُ قد تنجحُ في تحقيقِ أهدافِ مروّجيها إذا ما وجدت الجوَّ والظروفَ المهيّأةَ لانطلاقتها، والبيئةَ المناسبةَ لنموِ بذرتها, والأجسادَ الرخوةَ التي تسمحُ لجرثومتها بالانتشارِ والاستشراءِ والفتكِ، كما أنّها تصيبُ هدفَها إذا ما وجدتِ الآذانَ المرخاةَ الصاغيةَ التي تصيخُ السمعَ لكلّ شاردةً وواردةً, وإذا ما وجدتْ العقولَ المغسولةَ أو التي لا تدركُ لبّ الأشياءَ، والأعينَ محدودةَ البصيرةِ أو التي لا تنظرُ إلى ما وراء السطورِ، لأنّـه لا تعمــى الأبصــارُ وإنّما تعمى القلــوبُ التي في الصــدورِ.
ولذلك جاءَ الأمرُ الإلهيُّ التوجيهيُّ ( إنْ جاءَكم فاسقٌ بنبأ فتبيّنوا) فلا بدّ إذن من التثبّتِ في الأمورِ، وتقليبِها على نارِ الحقيقةِ الهادئةِ, ولا بدّ من إعمالِ الفكرِ والعقلِ والبصيرةِ، حتى يدرأ الإنسانُ عن نفسه كيدَ الشائعاتِ وهذا ما أمرَ به اللهُ تعالى, كما يبرزُ دورُ الإعلامِ في محاربةِ الشائعةِ, وهو ما سنفصِّله – إن شاء الله- في هذا البحثِ.

كيفَ عالجَ الإسلامُ الشائعةَ؟
سنأخذُ من دينِنا الإسلاميِّ الحنيفُ ومن كتابِ اللهِ الكريمِ نموذجا واحدا على محاربةِ الإسلامِ للشائعةِ، وهو نموذجٌ إعلاميٌّ وتربويٌّ في آنٍ واحدٍ.
وَلْنَتْلُ قولَه تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ, لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ, لَوْلا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُولَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ, وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ, إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ, وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ, يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) إلى آخرِ الآياتِ الواردةِ في سورةِ النورِ.
إنّ هذهِ الآياتِ الكريمةَ إضافةً إلى وضعها التشريعَ الخاصَّ بالزنا فإنّها عالجتِ الشائعةَ، خاصّةً تلك التي تتعرضُ إلى السمعةِ الشخصيّةِ، والتي يمكنُ أن يؤدّي وجودُها ونشرُها إلى خرابٍ وفسادٍ وتدميرٍ للشخصيةِ قد لا تقف آثارها عند جيلٍ واحدٍ، بل تتجاوزه إلى جيلِ الأبناءِ والأحفادِ، وتلك هي شائعاتُ الإفكِ التي ليسَ لها دليلٌ، سوى الألسنِ تلوكُها والإعلامِ يتداولها, بينما لا برهان مبينا يؤكِّدها، ولقد قطعَ الوحيُ الإلهيُّ دابرَ شائعةِ الإفكِ التي شاعت عن أمِّ المؤمنين السيدةِ عائشة بنتِ أبي بكرٍ- رضي الله عنها-.
وهذا الحادثُ وتلك الشائعاتُ الحاقدةُ المغرضةُ كانَ لهما أثرٌ كبيرٌ, وبلا شكّ أنّ نزولَ الوحيُ جاءّ إعلاما ببراءةِ الصدّيقةِ بنتِ الصدّيقِ، وإعلاما بالتشريعِ الإلهيُّ في ما يتعلّقُ بإثباتِ الزنا.
إنّ الإعلامَ الحقَّ هو الذي يتصدّى بالكلمةِ الطاهرةِ لكلِّ الشائعاتِ المغرضةِ وبالقولِ الفصلِ، وباللسانِ البيّنِ, ومن هنا يتبيّن لنا أنّ الإعلامَ الأفضلَ والأقوى وما يقصدُه من التّهذيبِ والتّقويمِ والتّعليمِ هو ذاك الذي يتّصلُ بالوقائعِ اليوميّةِ والطارئةِ ويتصدّى لكلِّ طارئ وحادثٍ من محدثاتِ الأيامِ بكلِّ الوضوحِ والبيانِ والمنطقِ والحجّةِ.
ليسَ واجبُ الإعلامِ أن تستفزَّه الأحداثُ، فتأتي معالجته للشّائعاتِ قراءةً لها حرفا حرفا، أو الردّ عليها وتفنيدها بالكلامِ المصنوعِ المدبّجِ، وإنما مقارعةُ الحجّةِ بالحجّةِ وإعلانُ الحقيقةِ الناصعةِ، والخبرِ اليقينِ الذي لا يعرفُ الاختلافَ، ولا التأتأةَ، أو لا بهرجةَ الألفاظِ.
إنّ الإسلامَ عالجَ الشائعةَ بإبانةِ الحقيقةِ كما حدثَ في قصّةِ الإفكِ، وحاربَ الشائعة بطلب التثبّت والتبيّن ( إن جاءكم فاسقٌ بنبأ فتبيّنوا) ولم يأخذْ الإسلامُ الناسَ بالشبهاتِ، وإنّما طلبَ أربعةَ شهودٍ لإثباتِ الزنا، وهذا حامٍ وحاجزٌ، وسدٌّ منيعٌ أمامَ الشائعةِ التي يمكنُ أن تدمّرَ سمعةَ الإنسانِ رجلا كانِ أو امرأةً، ويمكنُ أن تدمّرَ الأسرةَ ويمكنُ أن تدمّرَ المجتمعَ، ويمكنُ أن تمزّقَ أواصرَ العلاقاتِ الإنسانيةِ والصلاتِ الأسريّةِ التي تقوُم على الثّقةِ والاحترامِ والسمعةِ الحسنةِ، وكما في الحديثِ ( إذا أتاكم من ترضون دينه فزوجوه) وهذا الرضى نتاجُ السمعةِ الحسنةِ التي يمكنُ للشائعةِ أن تعصفَ بها وتجعلَها سمعةً سيئةً منفّرةً.

شروط الشائعة
من الطبيعي ألا تنتشرُ كلُّ الشائعاتِ فمنها ما يظلُّ في نطاقٍ محدودٍ جدا, ولا بدَّ للشائعةِ من شرطينِ أساسيينِ حتّى تروّجَ وتسريَ.
الشرطُ الأوَّلُ:
ما يتعلّقُ بموضوعِ الشائعةِ، فيجبُ أن ينطويَ على شيءٍ من الأهمّيةِ بالنسبةِ للمتحدّثِ والمستمعِ.
الشرطُ الثاني:
اشتمالُ الوقائعِ الحقيقيةِ على جانبٍ من الغموضِ، وهذا الغموضُ ينشأ إمّا عن انعدامِ الأخبارِ أو اقتضابها، أو تضاربها أو عدمِ الثّقةِ بها، أو ينشأ عن بعضِ التوتراتِ الانفعاليةِ التي تجعلُ الفردَ غير قادرٍ أو غير متهيئ لتقبّلِ الوقائعِ التي تقدِّمها الأخبارُ إليه.
والشرطانِ الأساسيانِ للشائعةِ – نعني الغموضَ والأهميةَ- يرتبطانِ ارتباطا كمّيّا بسريانِ الشائعةِ, وقدرِ الشائعةِ الساريةِ يتغيّرُ تبعا لمقدارِ الغموضِ المتعلّقِ بالمسألةِ المعنيّةِ, والعلاقةُ بين الغموضِ والأهمّيةِ ليست علاقةً إضافيّةً، وإنّما هي علاقةٌ تضاعفيّةٌ بمعنى أنّه إذا كانتِ الأهمّيةُ صفرا، أو إذا كانَ الغموضُ صفرا فلن تكونَ هناك شائعةٌ.
إنّ أيّ شائعةٍ لا تنشأ كلَّها من الخيالِ، بل قد تحتوي – أحيانا – على خميرةٍ من الحقيقةِ أو نواةٍ من الواقعِ يُصاغ حولها نسيج الشائعةِ، ولكنَّها كثيرا ما تكونُ (مختلفةً), وإذا ما تناقلَ الناسُ الشائعةَ فإنّها تصبحُ خبرا صحيحا تماما، فإذا ما تناقله الناسُ زادوا عليه من خيالهم حتّى يغدو مشوقا مثيرا, فما إن يمشى خطواتٍ حتّى يصيرَ ككرةِ الثلجِ لا تزالُ تتزايدُ كلّما تدحرجت.
ومن هنا يبرزُ دورُ الإعلامِ الحقيقيِّ الذكي الذي يتصدّى للشائعةِ في مهدها فيقضي عليها قبل أن تنتشرَ ويعمّ شرّها, وذلكَ بتوضيحِ الحقائقِ كما هي، وعرضها على الناسِ من موقعِ الأحداثِ, فمثلا إذا انتشرت شائعةٌ في مدينةٍ ما تتحدّثُ عن تعرّضِ المدينةِ لزلزالٍ أو طوفانٍ أو كارثةٍ, فإنّ العرضَ التلفازيَّ الحيَّ لأرضِ الحدثِ وواقع الصورةِ، وحقيقة الحالِ، هو الترياقُ المضادُّ والناجزُ والحاسمُ، والقاضي على جرثومةِ الشائعةِ.
إنّ الشائعةَ ببساطةٍ ترجعُ في ظهورها إلى انعدامِ المعلوماتِ، ولذلك لا بدَّ لوسائلِ الإعلامِ أن تظهرَ الحقيقةَ كاملةٍ، وبتفاصيلها، وعدم إخفاءِ شيءٍ عن الناسِ، حتَّى لا يكونَ هناك سببٌ وحافزٌ لظهورِ الشائعةِ ومن ثمَّ استمراريتها وتأثيرها المدمّـر، كما أنّ واجـبَ الإعلامِ أن يركِّزَ على القيمِ العاليةِ في نفوسِ الأمّةِ، حتى يكونَ الإنسانُ على درجةٍ كبيرةٍ من الوعي والحصانةِ وتقديرِ الأمورِ.
إضافةً إلى ربطِ الأمّةِ بعضها البعض وعلى أسسٍ واضحةٍ من الإحساسِ الوطني العالي والراقي المرتكزِ على الإقناعِ والثّقةِ.
إنّ الإعلامَ الذي يفقدُ ثقةَ الناسِ فيه، لا يمكنُ أن يكونَ مصدرا لإقناعهم بالحقيقةِ إذا كانَ يمارسُ التضليلَ ففاقدُ الشيءِ لا يعطيه، وانعدام ثقةِ الناسِ في التعاملِ مع الأجهزةِ الإعلاميةِ، أو الاقتناعِ بما تنشره هو أحدُ الدوافعِ للمواطنِ كي يتلقى السمَّ في الدّسمِ أثناء الأزماتِ من وسائلِ الإعلامِ المعاديةِ أو المنافسةِ, فهو لم يتعوّد على الحقيقةِ من وسائلِ إعلامهِ أيام السلمِ فكيف له أن يصدّقها في أيامِ الحربِ، وعلى سبيلِ المثالِ، سقطَ الإعلامُ في حربِ يونيو 1967م ببثّ الشائعاتِ والأكاذيبِ عن الانتصارِ في الحربِ وهي غير حقيقيّةٍ، ولذلك لم يصدّقْ العربُ ما أورده الإعلامُ عن عبورِ الجيشِ المصريِ قناةَ السويسِ عام 1973م حتى بانت الحقيقة رغم نجاحه في العبور حينها, لأنَّ النَّاسَ افتقدوا المصداقيةَ في الإعلامِ العربي منذ عام 1967م.
ومن المحتمل أن يتغيّرَ محتوى الشائعةِ على مرِّ الزمانِ كلّما انتقلت من مصدرها الأصلي أو مروّجِها، وتعتمدُ كمّيةُ التغييرِ أو التشويهِ على رغباتِ ودوافعِ وذكاءِ وذاكرةِ الناقلِ والمروّجِ، وعلى شدّةِ الردودِ العاطفيةِ التي تولّدها لدى الأفرادِ والمجتمعِ والشعبِ, وواجبُ الإعلام أن يكونَ السبّاقَ في القضاءِ على شرنقةِ الشائعةِ قبل أن تخرجَ منها، أمّا إذا خرجت ومدّت جناحيها وأذرعها في الأفقِ فعلى الإعلام ألاّ يصمت بل عليه أن يبادرَ إلى اللحاقِ بتلك الأجنحة و”تقصيصها” بالحقِّ والقولِ الثابتِ والبيانِ الواضحِ والدليلِ العملي.

وسائلُ الإعلامِ كمصدرٍ للشائعةِ
إنَّ وسائلَ الإعلامِ تلعبُ دورا كبيرا في ترويجِ الشائعاتِ ونشرها بمختلفِ الوسائلِ, فالشائعاتُ التي تنتقلُ صراحةً أو مجازا عبرَ الهمسِ، سرعان ما تنتقلُ إلى وسائلِ الإعلامِ التي تقومُ بنشرها على نطاقٍ واسعٍ.
فالصحافةُ مثلا بنشرها صيغا مستقبليةً للألفاظِ توحي بالشائعةِ، مثل قولها: تردّدَ في الأوساطِ السياسيّةِ أو قولها: تردّدَ في الأوساطِ الاقتصاديةِ أو قولها: من المنتظرِ قيامُ الزعيمِ كذا الخ…
كما تنشرُ الصحفُ زوايا معيّنةً فيها مثل: زوايا وخفايا وأسرارٍ وسرّي جدّا ونقاطٍ ساخنةٍ, وهذه الزوايا قد تكونُ مصدرا لاختلاقِ الإشاعاتِ.
أيضا هناك التحليلاتُ السياسيّةُ في الصحفِ والمجلّاتِ, وبعضُ رسومِ الكاريكاتيرِ فهناك علاقةٌ بين الرسومِ والشائعاتِ لأنّ كليهما يعبّرُ عن بعضِ المشاعرِ الانفعاليّةِ.
كذلك تشكّلُ الإذاعةُ مصدرا للشائعاتِ خاصَّةٍ تلك الإذاعات السرّية, وللتلفازُ أيضا دورٌ في نشرِ الشائعاتِ من خلالِ شاشته, كما لا يمكنُ إغفالُ دورِ وكالاتِ الأنباءِ العالميةِ التي تبثّ الأخبارَ والتعليقاتِ وتستطيعُ من خلالها تحويرَ الأخبارِ اليوميةِ إلى أخبارٍ مستقبليةٍ تتضمنُ الكثيرَ من المفرداتِ التي تحملُ سمات الشائعةِ، أو أن تقومَ الوكالاتُ بالتعتيمِ على الأخبارِ عن قصدٍ، بإبرازِ نصفِ الحقيقةِ، وتركِ البابِ مفتوحا لدخولِ الشائعاتِ ومروّجيها.
وهكذا ندركُ أنّ وســـائلَ الإعـلامِ قد تكونُ مصدرا ومروّجا للشائعةِ في الوقتِ نفسه وهذا أمرٌ خطيرٌ لأنَّ وسائلَ الإعلامِ خاصّةً في عصرنا الراهنِ منتشرةٌ وواسعةُ المدِّ وتصل إلى كلِّ البقاعِ، ومتغلغلةُ التأثيرِ في النفوسِ، وهذا ما يؤكّدُ أهمّيةَ تأثيرِ الإعلامِ، غير أنّ هذا لا ينفي الدورَ الإيجابي لوسائلِ الإعلامِ وشجاعته في محاربةِ الشائعةِ، وهذا ما سنبحثه بتوسّعٍ في الصفحاتِ التاليةِ – إن شاءَ اللهُ- .

الإعلامُ والشائعةُ: التصدّي والعلاجُ
إنّ الإعلامَ المسئولَ أو الإعلامَ الرسميَّ أو غيرَ الرسميِّ يواجه مسؤوليةَ التصدّي للشائعةِ, وعلى وسائلَ الإعلامِ المختلفةِ من إذاعةٍ وتلفازٍ وصحافةٍ وكتابٍ ووكالاتِ أنباءٍ وغيرها الواجبُ الهامُّ في دحضِ الشائعاتِ التي تنتشرُ في مجتمعٍ ما.
فعلى سبيلِ المثالِ, على الصحافةِ مسؤوليةُ التصدّي للشائعاتِ التي تتناولُ شؤونَ السياسةِ والاقتصادِ أو المجتمعِ في مجالاتِ الفنِّ والشبابِ والرياضةِ من خلالِ نشرِ التحقيقاتِ الميدانيةِ المصورةِ لنفي الشائعةِ التي أثارت البلبلةَ وشغلت الرأي العام, وعليها أن تتحرّكَ إلى موقعِ الحدثِ وتغطي كلَّ جوانبِ الخبرِ والشائعةِ بما يدحضه تماما ويفنده تفنيدا مقنعا، وذلكَ بعرضِ الوقائعِ والأحداثِ من مصادرها الحقيقيةِ، بالصورةِ المناسبةِ التي تقنعُ القارئ وتبدّدُ كلَّ السحبِ التي تجمّعت في ذهنه وكلَّ الحجبِ التي غطّت فكره وكلَّ التشويشِ الذي ألمَّ بعقله, وبهذا تؤكّدُ أنّها مرآةٌ للحقيقةِ، وناطقةٌ بالحقِّ، وساعيةٌ وراء المصلحةِ العامَّةِ.
والصحافةُ إنْ فعلت ذلك فإنّها تؤكّدُ أنّها في خدمةِ القارئ وأنّها تعملُ على مدّهِ بالمعلومةِ الصحيحةِ ناشرةً لواء الإبانةِ والإفصاحِ, ناطقةً بالصدقِ وبلسانٍ غير كذوبٍ, وهذا الأمرُ يجعلُ القارئ يحترمُ صحافته ويؤكّدُ مصداقيّتها لديه وسيكونُ لمثل هذا العملِ الإيجابي ما بعده في مستقبلِ الأيامِ التي هي حبلى بالأحداثِ، والملاحظُ أنّ الصحفَ تكتسبُ احترامها من مصداقيتها، ولذلك فإنّ الشائعةَ القادمةَ، ستجدُ النفيَ المصدّقَ، إذا كانت الصحافةُ ذات مصداقيةٍ عند القراء أو كانت “جهينة” الذي عنده الخبرُ اليقينُ لا الخبرُ المكذوبُ.
إنّ رأسمال الصحافةِ هو صدقُها، ولذلك فإنَّ دورَها هامٌّ وضروريٌّ وناجزٌّ وناجحٌ ومطلوبٌ في التصدّي للشائعةِ, أمّا إذا كانت الصحافةُ لا تملكُ الحيويةَ والرغبةَ الصادقةَ ولا تتحرّكُ لمواقعِ الشائعةِ لكشفِ خطئها وشدّةِ ضررها وبشاعةِ تأثيرها ولا تملكُ الأدواتِ والوسائلَ التحريريةَ والفنيةَ أو المبادرةَ والمبادأةَ بالتصدّي للشائعاتِ فإنّها تصبحُ صحافةً باهتةً لا تملكُ أيّ مؤهلاتٍ لكسبِ ثقةِ الناسِ أو تنويرهم في الإعلامِ والتوجيهِ وتحرّي المصداقيةِ من الأحداثِ.
كما أنّ هناك صحافةَ تلعبُ الدورَ النقيضَ وهي صحافةُ الإثارةِ التي تعيشُ على نشرِ الشائعاتِ والأخبارِ المختلفةِ والوقائعِ الملفّقةِ، ومثل هذه الصحافةِ ضارّةٌ ومخربةٌ وغيرُ جديرةٍ بأنْ تكونَ في الساحةِ الإعلاميةِ، فهي مثل مصدرِ الشائعةِ تعاني من خللٍ نفسيٍّ واضطرابٍ مسلكيٍّ وفشلٍ مهنيٍّ, فرسالةُ الصحافةِ رسالةٌ ساميةُ – أو هكذا يجبُ أن تكون – .
إنّ أهمّيةَ الصحافةِ تنبعُ من أنّها اتّصالٌ يوميٌّ ومباشرٌ بالناسِ, وهو اتّصالٌ هدفه الرئيسي نقلُ الخبرِ والرأي والتحليلِ والصورةِ, وعبر هذه الوسيلةِ الهامّةِ سواء كانت يوميةً أو أسبوعيةً أو حتَّى دورية يقوّى الاتصالُ إلى درجةٍ تصبحُ ذات تأثيرٍ كبيرٍ في الرأي العام، لذلك فإنّ دورها في محاربةِ الشائعةِ هامٌّ وحيويٌّ وضروريٌّ – كما أشرنا -.
إنّ الصحافةَ كغيرها من وسائلِ الإعلامِ تلعبُ دورا مقدّرا في مهمّةِ التوجيهِ والإعلامِ وتكوينِ المواقفِ والاتّجاهاتِ لدى الناسِ، وإنّ توجيهَ المجتمعِ إلى الصوابِ هو دورُ الصحافةِ مع وسائلِ الإعلامِ الأخرى ومسؤوليتها التي يجبُ أن تقومَ بها, ولا شكَّ أنَّ دورها في محاربةِ الشائعةِ بكتابةِ المعلومةِ الصحيحةِ ونشرِ الخبرِ الأكيدِ وعرضِ التحليلِ الموضوعي دورٌ مستمرٌّ ومرغوبٌ ومطلوبٌ.

الإذاعةُ والتلفازُ
رغمَ أنَّ الصحافةَ وسيلةُ إعلامٍ فعاّلةٍ إلى درجةِ أنّها تعتبرُ وسيلةً رئيسيةً لدى المجتمعاتِ الحديثةِ, إلا أنَّها في بعضِ المجتمعاتِ الناميةِ والمتخلفةِ تترك مكانها لوسائلَ إعلاميةٍ تقنيةٍ حديثةٍ أيضا هي الإذاعة والتلفاز وغيرهما، وسببُ ذلك عائدٌ إلى أن الصحافةَ تفترضُ وجودَ مستوى ثقافي معيّنٍ لدى جمهورِ القراءِ, أمّا الإذاعةُ والتلفازُ فوسائلُ سمعيةٌ وبصريةٌ بإمكانها التوجه إلى جمهورٍ واسعٍ ليس مهمّا إذا كان يعرفُ القراءةَ والكتابةَ أم لا، هذا إلى جانبِ أنّهما وسيلتانِ جذّابتانِ لأنّهما وسيلتا ترفيهٍ.
ومن هنا فإنّ دورَ الإذاعةِ والتلفازِ كبيرٌ وهامٌّ في القضاءِ على الشائعةِ، إذا وضعنا في الاعتبارِ مساحةَ انتشارِهما الواسعةَ وديناميكيةَ الاستفادةِ منهما على مدارِ ساعاتِ البثِّ, فيمكنُ في حالِ انتشارِ شائعةٍ ما تتناول الرجلَ الأوَّلَ في البلادِ مثلا أو حدوث كارثةٍ في بلدةٍ ما أو أي حدثٍ مهمٍّ قطعُ الإرسالِ وظهورُ الشخصِ محور الشائعةِ على الشاشةِ مباشرةً أو سماع صوته عبرَ أثيرِ الإذاعةِ في الوقتِ نفسه ويكون هذا قطعا لدابرِ الشائعةِ وقبرا لها في مهدها.
كما يمكنُ استضافةُ شخصياتٍ متخصِّصةٍ على الهواءِ مباشرةً تتناولُ بالشرحِ والعرضِ والتحليلِ الشائعةَ المطلوبَ نفيها للناسِ أو إجراء مقابلاتٍ حيّةٍ من موقعِ الشائعةِ تدحضُ كلُّ ما أثيرَ حولها وتخرسُ لسانَ الكذبِ وترفعُ رايةَ الحقيقةِ.
إنّ ميزةَ الإذاعةِ والتلفازِ، إنّهما يتماشيانِ مع عصرِ السرعةِ فالإعلامُ اليوم إعلامُ عصرِ السرعةِ المذهلة الذي يغطي الأحداثَ أثناءَ وقوعها, وينطبقُ ذلك على النقلِ الحيِّ لمبارياتِ كرةِ القدمِ والمنافساتِ الرياضيةِ بشكلٍ عامٍّ, وعلى المؤتمراتِ الصحافيةِ وعلى البرامجِ التي تبثُّ على الهواءِ ويشاركُ فيها أناسٌ من خارجِ الاستوديو بل ومن قارّاتٍ أخرى بعيدةٍ.
وإذا أدركنا أنَّ الإذاعةَ والتلفازَ يصلانِ إلى الجماهيرِ العريضةِ إلى درجةِ القولِ بأنّهما يعملانِ على مستوى الكوكبِ الأرضي حيث أصبحت الكرةُ الأرضيةُ القريةَ الإلكترونيةَ, وإذا أدركنا أنّنا في عصرِ السرعةِ فإنّ عاملَ السرعةِ نفسه حاسمٌ وهامٌّ في القضاءِ على الشائعةِ، ذلكَ لأنّ الإسراعَ في الردِّ على الشائعةِ هامٌّ جدا في نفيها, ولأنّ التباطؤَ في نفي الشائعةِ قد يعني إثباتها أو إتاحة المجالِ الزمني لها كي تمتدُّ وتنتشرُ, وبالتالي يمتدُّ ضررها وتأثيرها السالب.
إنّ الاستفادةَ من التطوّرِ التقني في الإعلامِ وسرعته عاملٌ حاسمٌ في القضاءِ على الشائعةِ وذلك بانتهازِ الفرصةِ العاجلةِ للردِّ الحاسمِ والسريعِ على الشائعةِ, وتأكيد الحقيقةِ وإبانة الواقعِ الفعلي للحدثِ, فالعصرُ عصرُ السرعةِ؛ والإعلامُ سلاحُ ذلك العصرِ؛ والسرعةُ هي أداةُ ذلك السلاحِ وطلقته التي توجه إلى الهدفِ, لذلك فإنّ دورَ الإعلامِ وسرعةَ تفاعله وتغطيته للإحداثِ خاصّةً الإذاعة والتلفاز دورٌ كبيرٌ وذو تأثيرٍ فعال في القضاءِ على الشائعةِ.
ولا يقفُ دورُ وسائلِ الإعلامِ من صحافةٍ وإذاعةٍ وتلفازٍ وغيرها من وسائلَ مقروءةٍ أو مطبوعةٍ أو مسموعةٍ أو مرئيةٍ عند حدودِ النفي السريعِ للشائعةِ, وإيراد البرهانِ على خطئها وتفنيدها وإثبات عدم وجودها بالصورةِ والصوتِ والكلمةِ فقط، وإنّما هناك دورٌ وقائي لهذهِ الأجهزةِ، ودائما الوقايةُ خيرٌ من العلاجِ.
وإذا أدركنا أنَّ الرأي العامَّ في كلَّ مجتمعٍ من المجتمعاتِ قويٌّ, ولا يسهلُ خداعه إذا كان متعلما أو ملمّا بأطرافِ موضوعٍ ما من الموضوعاتِ التي تشغلُ بالَ الناسِ فإنَّ دورَ وسائلِ الإعـــلامِ كبيرٌ في الإقناعِ, من خلال توضيحِ الصورةِ بكافّةِ أبعادِها, وعدم تجاهلِ أي معلومةٍ قد يلفُّها الغموضُ, ومن ثمَّ العملُ على ترسيـخِ المعلوماتِ الحقيقيةِ في أذهان الناس حتَّى لا ينساقوا وراء الشائعاتِ.
كما أنّ وسائلَ الإعلامِ نفسها مطالبةٌ بأن تتصدّى للشائعةِ بإهمالِها وعدم نشرها ونقلها, وبهذا يكونُ الإعلامُ قد لعبَ دورَ الحاجزِ الذي يقفُ بين الشائعةِ والناسِ, فهو من يعملُ على صدّها ومن يعتّمُ عليها ومن يمنعُ عنها الهواءَ الذي تتنفسُ منه فتموتُ على ألسنِ مطلقيها بدلا من أن تنطلقَ فتصيب وتؤذي.
إنّ الوقايةَ من الشائعةِ كذلك تكون في توفيرِ المعلومةِ الصحيحةِ، ومن أهلِ الخبرةِ والاختصاصِ لأنَّ تركَ الناسِ للشائعاتِ – كما يقولون – دون الرجوعِ إلى أهلِ العلمِ والدراسةِ والخبرةِ والمسؤوليةِ فيه الكثيرُ من اللامبالاةِ وفيه الكثيرُ من إتاحةِ الفرصِ للشائعةِ كي تنتشرَ وتعمَّ.
ومن الواجبِ إقامةُ مراكزِ توعيةٍ أيام المحنِ والكوارثِ والحروبِ, الأمرُ الذي يجعلُ الناسَ يلجأون إلى أهلِ الدرايةِ ولا يتيحُ المجالَ واسعا أمامَ الشائعاتِ التي هي في الأصلِ نتاجُ الجهلِ والتعتيمِ وصمتِ ألسنِ أصحابِ المعرفةِ عن الجهرِ بنفيها.

من هو الإعلاميُّ القادرُ على محاربةِ الشائعةِ؟
إذا كانت الشائعةُ عدوّا فلا بدَّ من وجودِ من يتصدّى لهذا العدوِّ, وإذا كانَ الإعلامُ هو الوسيلةَ للتصدّي للشائعةِ فإنَّ رجلَ الإعلامِ هو الذي يخوضُ المعركةَ ضدَّ الشائعةِ، فما المطلوبُ مِن مَن يتصدّى لهذهِ المهمّةِ الصعبةِ والهامّةِ؟
إنّ رجلَ الإعلامِ المعدَّ إعدادا جيدا والمتدرّبَ تدريبا سليما والذي يمتلكُ اللباقةَ والثقافةَ والكفاءةَ المهنيةَ والمصداقيةَ عندَ الناسِ هو الذي يجبُ أن يتصدّى لهذه المهمةِ.
إنَّهُ ذلك الإعلاميُّ الذي يفهمُ عمله ويدركُ خصائصَ الوسيلةِ الإعلاميةِ التي يعملُ فيها، ويحيطُ بالمهمّةِ التي كُلّفَ بها، إنّه الذي يسألُ أهلَ العلمِ، ويقرأُ الكتبَ، ويقابلُ الناسَ ويدرسُ اهتماماتهم، ومستوياتهم، وبالتالي يقدِّمُ عملا مدروسا ومقنعا ومعززا بالصوتِ والصورةِ وحديثِ أهلِ الخبرةِ من السياسيين أو الاختصاصيين، ويطرحُ كلَّ الأسئلةِ التي في الأذهانِ، ويغطّي كلَّ جوانبِ الحدثِ أو الشخصيةِ مصدرِ الشائعةِ, ولا يكتفي بالأمورِ التقليديةِ بل يحاولُ أن يخلّصَ المجتمعَ من الشائعاتِ وشرورها.
ومثل هذا الشخصِ يجبُ ألا يعملَ منفردا بل يجبُ أن يكونَ له أو معه فريقُ عملٍ متخصّصٍ من ذوي الاحترافِ المهني حتى يخرجَ العملُ الذي يناقشُ شائعةً ما متكاملا، فيتناولها بالتحليل والعرض من كلّ النواحي الفنية والإبداعية, لأن الإعلامَ يجبُ أن يكونَ في إطارٍ جذّابٍ يقنعُ بالقولِ الحقِّ وبالصورةِ الناطقةِ وبالمشهدِ المتكاملِ سواءً في الصحافةِ أو في الإذاعةِ أو التلفازِ, ولا يقتصرُ دوره على مرحلةٍ بعينها ( زمن ومكان الشائعةِ) وإنّما يكونُ دوره متّصلا ومستمرّا حتّى يصبحَ ما يقدِّمه من عملٍ رائدا ذا مصداقيةٍ, وعملا إعلاميا متكاملا بذخيرةٍ معلوماتيةٍ رائعةٍ ومفيدةٍ، وعملا ذا مرجعيةٍ يلجأ إليه الناسُ ويتذكرونه كلّما تناهت إلى أسماعهم شائعةٌ مغرضةٌ.
كما يقومُ أهلُ الإعلامِ باقتفاءِ أثرِ الشائعةِ لتقديمِ الدواءِ الناجعِ وللحدِّ من آثارِ الشائعاتِ التي لن تتوقفَ ما دامت الحياةُ تسيرُ بالناسِ وبأحلامِهم وبأطماعهم، وبطموحاتهم، وبمخاوفهم، وبآمالهم، وبتطلعاتهم، وبتناقضاتهم، وبتداخل مصالحهم, وفي ظلِّ وجودِ المنافسةِ بين الأفرادِ والجماعاتِ والأممِ والشعوبِ.
ودائما الوقايةُ خيرٌ من العلاجِ, وخيرٌ وسيلةٍ لمقاومةِ الشائعةِ على مستوى الدولةِ هي تحصينُ شعبِ تلك الدولةِ عن طريقِ دعمِ إيمانه بوطنه وأهدافه, ويجبُ أن يكون هذا الدعمُ بين كلِّ الشعوبِ، كما يجبُ توعيةُ الجماهيرِ، وإيقاظُ الضمائرِ, وكلُّ هذهِ الواجباتِ تقعُ مسؤوليتها على عاتقِ الإعلامِ بالتضامنِ والتعاونِ والتنسيقِ مع جهاتٍ أخرى فاعلةٍ في مجالاتِ التوجيهِ والإرشادِ والثقافةِ, وتظهرُ هنا أهميةُ التنشئةِ والتربيةِ والتعليمِ فهذه العواملُ تعتبرُ أساسا للتنشئةِ الصالحةِ ليصبحَ كلَّ فردٍ عارفا بأمورِ وأحوالِ وطنه وعاقدا العهد على حمايته, ومتسلّحا بالولاءِ الواعي والانتماء الصادقِ والارتباطِ الفكري المتينِ, والمبني على الحقائقِ الناصعةِ.
كما يجبُ أن يتجاوزَ دورُ الإعلامِ الخطبَ والمساجلاتِ والأطروحاتِ الفكريةَ المحضةَ إلى توحيدِ مواقفِ الشعوبِ تجاه الشائعاتِ والعمل على رصدِ آثارها والحدِّ من أضرارها من خلالِ التنويعِ في التناولِ والتعدّدِ في أسلوبِ الطرحِ والمعالجةِ, فيمكنُ استثمارُ أشكالِ الإعلامِ وأساليبِ الترفيهِ المختلفةِ والاستفادةِ من العروضِ المسرحيّةِ والدراميّةِ والموسيقى والأغاني والأناشيدِ الوطنيةِ فهي تؤثرُ على الناسِ وترفعُ الروحَ المعنويةَ للشعوبِ, ويمكنُ للدراما والكوميديا أن تتناولا الشائعاتِ بطريقةٍ غير مباشرةٍ فتفندها وتدحضها، ويضافُ إلى ذلك دورُ الإعلامِ الرئيسي في مواجهةِ الأكاذيبِ والشائعاتِ بالحقائقِ الناصعةِ التي تؤيّدها الوثائقُ والمستنداتُ وما تتضمنه الأفلامُ التسجيليةُ والوثائقيةُ.
ولكي تنجحَ وسائلُ الإعلامِ في حربِ الشائعةِ يجبُ أن تكونَ محاربةُ الشائعاتِ بالتّحصينِ الذي أشرتُ إليه من قبلُ وبالتعبئةِ النفسيةِ للجماهيرِ على أن يتمَّ كلُّ ذلك في إطارٍ من التخطيطِ الإعلامي القائمِ على البحثِ العلمي، مع قياسِ النتائجِ وتقويمِ الآثارِ في كلِّ خطوةٍ من الخطواتِ حتّى يتمَّ العملُ في نظامٍ دقيقٍ مدروسٍ بعيدا عن الارتجالِ المربكِ.
ويشيرُ المختصُّونَ في الإعلامِ إلى ضرورةِ توافرِ عناصرِ الاحترامِ والثّقةِ بين وسائلِ الإعلامِ وبين المتلقين ليساهمَ في إحداثِ التأثيرِ بشكلٍ مباشرٍ في المتلقي, ولذلك اقترحَ الباحثانِ ( فرنش ورافين) أشكالا بديلةً للعلاقةِ بين المرسلِ والمتلقي ( الوسيلة الإعلامية والجمهور), وهي العلاقةُ التي تتمُّ فيها المبادرةُ إلى بسطِ النفوذِ والتأثيرِ من قبل المرسلِ, ويتمُّ قبولُ ذلك التأثيرَ من قبل المتلقي, وأساس ذلك التأثيرِ النظري أنّ التأثيرَ الشخصي من خلالِ الاتّصالِ هو شكلٌ من أشكالِ استخدامِ القوّةِ ويعتمدُ هذا الاستخدامُ للقوّةِ على خصائصَ ومميزاتٍ محدّدةٍ عند الطرفِ المؤثّرِ بالعمليةِ الاتصاليةِ ( المرسل), ومن هذه المميزاتِ ما يتطلّبُ وجودُ نوعٍ من الإشباعِ يحصلُ عليه متلقي الرسالةِ الاتّصاليةِ وقد يكونُ ذلك الإشباعُ شعورا بالسرورِ والارتياحِ أو الاقتناعِ بنصيحةٍ مفيدةٍ أو غير ذلك, وهذه الميزة تترك البابَ واسعا أمامَ أجهزةِ الاتّصالِ أو الإعلامِ لتعلب دورها الحاسمَ في محاربة الشائعة ودرءِ أثرها, وذلك بلجمها من خـلالِ إيرادِ الحقائقِ المقنعةِ التي تثار في قالبٍ يوصلُ إلى ذلك الإشباعِ الذي أشرنا إليه, ومن ثمّ الإقناعِ بخطر الشائعة السائدةِ في فترةٍ زمنيةٍ ما.
أمّا الميزةُ الثانيةُ فتقتضي وجودُ نوعٍ من العواقبِ السلبيةِ يتأثّر بها متلقّي الرسالةِ الاتصاليةِ في حال عدم إذعانه.
أما الميزةُ الثالثةُ فتتعلقُ بجاذبيةِ المرسِلِ ومكانته ومنزلته وفي هذه الحالِ فإنَّ المتلقّي قد يتعاطفُ مع الشخصِ المرسِلِ ويخضعُ طواعية لتأثيره لأسبابٍ عاطفيةٍ, وهذا جانبٌ هامٌّ في حربِ الشائعةِ إعلاميا.
ودورُ وسائلِ الإعلامِ في الحروبِ والأزماتِ هامٌّ ومشهودٌ وحاضرٌ دائما, فلا يخلو جيشٌ ما من إدارةٍ للتوجيهِ المعنوي ويلعبُ الإعلامُ فيها دورا رئيسيا في الحثِّ على الصمودِ ورفعِ روحِ الجنودِ المعنويةِ ومحاربةِ الأعداءِ إعلاميا والردِّ على الحملاتِ الإعلاميةِ المعاديةِ كواحدٍ من أهمِّ وسائلِ التأثيرِ في الحربِ, بل يعدُّ الإعلامُ واحدا من أهمِّ الأسلحةِ الفتّاكةِ التي تشملُ الحربَ بالكلماتِ والمنشوراتِ والأرقامِ والصورِ والأفلامِ والأناشيدِ والأغنياتِ الوطنيةِ والموسيقى الحماسيةِ, إنَّها حربٌ إعلاميةٌ متكاملةٌ.
وتجدرُ الإشارةُ إلى أهميةِ الحالاتِ النفسيةِ والعاطفيةِ للمتلقّي وهنا يبرزُ دورُ الإعلامِ في محاربةِ الشائعةِ التي تستهدفُ عواطفَ الناسِ سواءً من ناحيةِ جذبهم واستقطابهم إلى فكرةٍ أو جهةٍ ما, أو تنفيرهم وإبعادهم عنها لتجميلِ صورةٍ ما أو لتشويهِ سمعةِ بلدٍ أو جيشٍ أو زعيمٍ أو فنَّانٍ أو حتَّى شخصٍ عادي, فالغرض في النهايةِ نفسيًّ عاطفيٌّ تدميريٌّ، ومثل هذا الجهدِ المخرّبِ لا تصدّه إلا من خلالِ محاربته بسلاحه نفسه وبأن يصلَ الإعلامُ إلى عقلِ وعاطفةِ الجمهورِ حتّى يمسحَ الصورَ المشوّهةَ التي رسّختها الشائعةُ في الأذهانِ, وما يُرادُ لها من الثباتِ والبقاءِ والديمومةِ حتّى تصبحَ واقعا مسلَّما به وحقيقةً لا تتغيرُ, وبديلا عن الصورةِ الحقيقيةِ التي عرفها الناسُ وترسّخت في أذهانهم.
وفي بقاءِ الصورةِ الحقيقيةِ ضررُ لأصحابِ الشائعةِ, ولذلكَ فإنَّهم يحاولونَ تغييرها بإطلاقِ شائعاتهم حولها باستدرارِ عاطفةِ الناسِ وتشويهِ الحقائقِ في عيونهم, أو محاولةِ رسمِ صورةٍ جديدةٍ ما هي إلا في الحقيقةِ رسمٌ مزيفٌ ومشهدٌ مصنوعٌ, وهنا يأتي دورُ الإعلامِ ليمحوَ تلك الشائعةَ عن الأذهانِ بأتباعِ العقلِ والعاطفةِ معا وبعملٍ مدروسٍ ومنظمٍ ومنسقٍ, وبجهدٍ متقنٍ وبكفاءةٍ عاليةٍ ليمحوَ تلك الصورةَ ويعيدُ الحقيقةَ ناصعةً إلى الأذهانِ.
وأيضا, ممَّا يميّزُ الإعلامُ في محاربةِ الشائعةِ ما يُسمّى بـ (قوّة الخبرة) ويعزى فيها إلى المرسلِ ليكونَ على معرفةٍ ودرايةٍ واسعةٍ وإطلاعٍ شاملٍ على كافّةِ الأوضاعِ, وهي تجعلُ كلَّ ما يصدره من آراءٍ أمرا مقبولا وميسورا, وهذه الحالُ موجودةٌ في مجالِ وسائلِ الإعلامِ من خلالِ دورها في نشرِ ( المعرفةِ بين الناسِ), ولنا أن نتصورَ أنّها تلعبُ دورا مهمّا في مدى قبولِ ( الأخبارِ) والاهتمامِ بها والاستئناسِ بآراءِ أهلِ الخبرةِ واحترامِ توصياتهم وتعليقاتهم.
كما أنَّ لقوّةِ الخبرةِ دورا كبيرا في السجالِ أو الحربِ بين الإعــلامِ والشائعـةِ فإذا كانت الشائعةُ اقتصاديةً فإنّ على وسائلِ الإعلامِ استضافةَ المختصين وأهلَ الخبرةِ في الاقتصادِ وطرحَ المسألةِ أمامهم وأخذَ آرائهم ومرئياتهم حولها باعتبارها موضوعَ الساعةِ ومشغلةَ الناسِ, وعلى هؤلاءِ إضافة إلى خبرتهم في مجالِ عملهم وتخصِّصهم أن يكونوا من ذوي اللباقةِ والقدرةِ على الإقناعِ وتوضيحِ الحقائقِ الكاملةِ الشاملةِ للجمهورِ بدون مواراةٍ أو تردّدٍ, وتحليلِ الأمورِ تحليلا علميا سلسا يخلو من النظرياتِ العلميةِ المعقدةِ والمصطلحاتِ الأجنبيةِ الصعبةِ والرموزِ العلميةِ الغامضةِ, كما يجبُ أن تكونَ لغتهم لغةً إعلاميةً مباشرةً ومعبّرةً ومختصرةً وشاملةً وبعيدةً عن اللغةِ الأكاديميةِ البحتةِ أو البحثيةِ الصِّرفةِ أو الجدليةِ المتعاليةِ.
ولذلكَ فإنَّ رجوعَ أهلِ الإعلامِ لأهلِ الخبرةِ والمتخصّصين عندَ محاربةِ الشائعةِ أمرٌ حتميٌّ ومهمٌّ, يقولُ اللهُ تعالى: ( واسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون), وهذا الرجوعُ يؤكّدُ حقائقَ عدّةً منها:
1. إنّ الإعلامَ يسعى فعلا للحقيقةِ.
2. إنّ الإعلامَ يحاربُ الشائعةَ.
3. إنّ الإعلامَ يعتمدُ على العلمِ في محاربةِ الشائعةِ.
4. إنّ الصّلةَ بين وسائلِ الإعلامِ وأهلِ الخبرةِ في كلِّ مجالاتِ الحياةِ صلةٌ راسخةٌ ومتجذّرةٌ.
5. إنّ لأهلِ الخبرةِ في المجتمعِ التقديرَ والكلمةَ المسموعةَ والمرجعيّةَ التي تقطعُ قولَ كلِّ خطيبٍ.
6. إنّ لكلِّ كذبةٍ نهايةً, ولكلِّ شائعةٍ من يسفّهها ويدحضها ويفندها بالإثباتِ الحقيقيِّ والبيانِ الراسخِ والعلمِ الكاملِ.
ورغمَ أهمّيةِ دورِ الإعلامِ وتأثيره فإنَّ هناك اتّجاها عامّا في المدرسةِ الإعلاميةِ يرى أنّ الناسَ من الحماقةِ بمكانٍ بحيث يصبحونَ عرضةً وفريسةً سهلةً للتأثّرِ بكلِّ أشكالِ التعبيرِ القويةِ كالدعايةِ أو الشائعةِ, ولذلك فإنَّ خطرَ الشائعاتِ يصبحُ ساحقا خاصَّةً إذا صدرت الشائعةُ عن وسائلِ إعلامٍ قويّةٍ وماكرةٍ وماهرةٍ وكانَ وراءها خبراءُ على درجةٍ عاليةٍ من الكفاءةِ والدرايةِ.
ولعلَّ إعلامَ “هتلر” أو الإعلامَ النازي في الحربِ العالميةِ الثانيةِ نموذجٌ لهذا الإعلامِ الماهرِ والماكرِ فقد كانَ مبارزا للإعلامِ المناوئ ومتفوقا عليه ومؤثرا في مسيرةِ الحروبِ, ولذلك يشيرُ ( دنيس ماكوين) إلى تأثيرِ وسائلِ الإعلامِ, ومن أمثلةِ ذلك التأثير:
1. الهلعُ الذي ينتشرُ بين الجماهيرِ استجابةً منهم لأخبارٍ مضلّلةٍ أو مشوّهةٍ تنذرُ بإحداقِ الخطرِ عليهم, ويُضربُ المثل لهذا النوعِ من التأثيراتِ لردودِ الفعلِ المشهورةِ من الجماهيرِ أثناءِ إذاعةِ ( أورسون ويلز) عام 1938م للحربِ العالميةِ الثانيةِ, وقد افتعلَ في هذا البرنامجِ الإذاعي نشراتٍ إخباريةٍ تعلنُ أنَّ من غزا الأرضَ هم من أهلِ المريخِ.
2. توسُّعُ وانتشارُ الشغبِ والغوغائيّةِ، ويضربُ المثل لهما بالتأثيراتِ المفترضةِ لوسائلِ الإعلامِ في إثارةِ الشغبِ والعصيانِ المدني في بعضِ المدنِ الأمريكيّةِ في السنواتِ الأخيرةِ في ستينياتِ القرنِ العشرينِ.
وفي كلتا الحالين يبدو أنّنا نتعاملُ مع نوعٍ معيّنٍ من الشائعةِ يمثّلُ تأثيرَ العدوى جانبا مهمّا فيهما, ولكنَّ أهمَّ ما يميّزُ هذه الشائعةَ هو دورُ وسيلةِ الإعلامِ فيها, فهي تصلُ إلى عددٍ كبيرٍ من الجمهورِ وفي اللحظةِ نفسها, وتنتجُ ردودَ فعلِ الجماهيرِ عن الهلعِ والريبةِ ومشاعرَ الخوفِ والشكِّ والقلقِ, خاصَّةً إذا كانت هناك معلوماتٌ خاطئةٌ أو مشوّهةٌ أو ناقصةٌّ, الأمرُ الذي يجعلُ أفرادَ الجمهورِ يواصلون بحثهم عن المعلوماتِ من خلالِ قنواتهم الشخصيةِ, وهذا الأمرُ نفسه يعملُ بشكلٍ أو آخرَ على تعزيزِ وشيوعِ الرسالةِ الأصليةِ ( الشائعة) ذات المعلوماتِ الخاطئةِ.
إمَّا موضوعُ العصيانِ المدني فقد وجدَ الباحثون الأمريكيون أنّ التلفازَ وأخباره يعملانِ على نشرِ الشغبِ ودائما ما تكونُ الشائعاتُ أساسَ تلك الأخبارِ.

ضوابطُ لمنعِ الشائعةِ في وسائلِ الإعلامِ:
ممّا عرضنا نعرفُ المدى البعيدَ من الضررِ الذي تبلغه الشائعةُ, فهي ضارّةٌ بالفردِ وبالمجتمعِ وحتى بالعلاقاتِ بين الدولِ وهي وسيلةٌ – في أغلبِ الأحيان – عدائيةٌ, الهدفُ من إطلاقها مصلحةٌ مضادّةٌ وهي بالقطعِ ليست مصلحةَ من أطلقت ضدّه الشائعـةُ سواءً كان فردا أو بلدا, لذلك فلا بدَّ من وجودِ ضوابطَ تكبحُ جماحَ الشائعةِ وتقضي عليها في مهدها.
ويمكنُ هنا التأكيدُ على الدورِ الكبيرِ لوسائلِ الإعلامِ في نفي ومحاربةِ وإهمالِ وعدمِ بثِّ الشائعةِ بين أفرادِ المجتمعِ, وبين جمهورِ المتلقين على مستوى العالمِ خاصّةً في هذا العصرِ الذي تحوّل العالمُ فيه إلى قريةٍ صغيرةٍ

زر الذهاب إلى الأعلى