الإعلامُ ومستجدّاتُ العصرِ
1412هـ -1991م:
بسم الله الرحمن الرحيم
صاحب السموّ الملكي الأمير خالد الفيصل
أمير منطقة عسير وراعي المتلقي الثّقافي في هذه المنطقة الجميلة بطبيعتها ومناخها.. والثريّة بفكرها وتراثها..
الأخوة الكرام
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،
عندما طُلِب منّي أن أكون محاضرا في هذه الليلةِ لمحاضرةٍ لم يكن لي نصيبٌ في اختيارِ اسمها أو موضوعها.. اعتذرتُ.. واعتذرتُ لأمرين فقط.. أوّلهما: أنّني كنتُ أعدّ الركايب مستعدّا للرحيلِ هروبا من عناءِ عامٍ مضى وبحثا عن الربيعِ.. ولم يكن لديّ الوقت لإعدادِ محاضرةٍ تليقُ بهذا المتلقي الكريمِ وترقى إلى مستوى فكرِ وثقافةِ حضوره الكرامِ.. وثانيهما: موضوعُ المحاضرةِ محدّدٌ سلفا.. فقد اعتدنا أن تكونَ مؤتمراتنا – إلا فيما ندر – وملتقياتنا – إلا فيما قلّ – مبتدئةً بالأدبِ ومنتهيةً إليه..نعشقُ الكلمةَ الشاعرةَ ونطربُ مع الحرفِ المموسقِ.. نهيمُ مع الجناسِ ونصفِّقُ للاستعارةِ كما نضحكُ لـ ” الطباقِ”.. شواطئ العواطفِ تريحنا كثيرا وليسَ مهمّا ما في الأعماقِ.. والقمرُ وسط الليالي يستحثُّ الآهَ فينا وما علينا كيفَ تمَّ الوصولُ إليه وما يعنينا ما عليه وما فيه..
ولذا خشيتُ بعد أن سمعتُ موضوعَ المحاضرةِ أن أكونَ المتحدثَ والمتلقّي في آنٍ واحدٍ.. فالمكتبةُ العربيةُ تزدحمُ بتفسيراتِ شعرِ الحماسةِ.. ومئاتِ الرسائلِ عن المتنبّي.. ومؤلفاتً عن قصيدةٍ ماتَ صاحبها ولم يعرفْ اسمه.. وتفسيراتٍ للخصومةِ بين البحتري وأبي تمّام ونتحدَّثُ كثيرا إلى درجةِ العنادِ عن أرنست همنجواي وتولستوي وأحيانا أوسكار وايلد بينما تمتلئ المكتباتُ الأجنبيةِ برسائلِ علميةٍ وشروحاتٍ عن ابن سينا والخوارزمي وجابر بن حيان والكندي والإدريسي وغيرهم.. وتكوّن المنتديات.. وتعقد المؤتمرات هناك عن حركةِ التطوّرِ ونقدِ النظرياتِ وملاحقةِ المستجدّاتِ.. بينما نكونُ نحنُ في منطقةِ السؤالِ عن منهم روّاد الشعرِ الحديثِ في عالمنا العربي.. ولماذا كانت الخصومةُ بين العقّاد وطه حسين.. ومن أسّس المدارسَ الألسنيةَ.
ومن أجلِ ذلك تساءلت عن علاقةِ الإعلامِ والتقنيةِ والمستجدّاتِ بهذا الملتقى؟..
وطلبت من الأخ الكريم محمد الحميد- الذي غمرني بطيبته وكرمه- إمهالي يوما من أجلِ الإجابةِ.. وقد فعلَ وله منّي الشّكر.. لقد توصّلتُ بعد ذلك إلى اقتناعٍ بأنَّ بعضَ ملتقياتنا تتجهُ نحو ( التوازن) بين العاطفةِ والعقلِ.. فإذا كان الآخرُ يقولُ: ( العقل أوّلا).. ونحنُ نقولُ: ( المشاعر والعاطفة أوّلا) فإنّ من الحكمةِ تحقيقُ التوازنِ بين ما يقولون ونقولُ.. وهذا فيما يبدو اتّجاهٌ جديدٌ وصحيحٌ بدأ على الأقلّ يبرزُ في هذا الملتقى الكبيرِ الذي يحاولُ أن يحقّقُ مبدأ التنوّعِ والشموليّةِ في مختلفِ مناحي الثقافةِ والآدابِ والفنونِ. ولذلك لم يقصر مهمّاته على الأدبِ وينسى قضايا أخرى كثيرةً في عصرٍ أصبحَ شعاره من يمتلك العلمَ يمتلك العالمَ.. ومن يتحكّم في التقنيةِ يضع القوانينَ.. وأرجو ألا يسبّبُ هذا الكلامُ العابرُ أيّ نوعٍ من تكديرِ الخواطرِ لمن يعشقون الأدبَ.. فكلّنا له عشاقٌ.. أما الذينِ يحترفونه فرسالتهم – حقّا – عظيمةٌ لإثراءِ فكرِ وثقافةِ الأمّةِ بإنتاجِ أدبٍ مبدعٍ ينبثقُ من المضامينِ الاجتماعيةِ ويرتكزُ على حاجاتِ وهمومِ وتطلّعاتِ وحاضرِ ومستقبلِ المجتمعِ.
الإعلامُ ومستجداتُ العصرِ.. هذا هو موضوعُ المحاضرةِ .. وهو موضوعٌ واسعٌ وله أبعادٌ متشابكةٌ وكبيرةٌ.. وليسَ من السّهلِ إعطاءُ مثل هذا الموضوعِ ما يستحقُّ في محاضرةٍ قصيرةٍ ويكفي في هذا المقامِ التعرّضُ باختصارٍ لأبرزِ ملامحِ المستجدّاتِ الاتصاليةِ في عصرٍ يزخرُ بالمتغيراتِ المتلاحقةِ في مختلفِ الحقولِ.
لقد بــدأ الكثيرُ من الأكاديميين والكُتابِ والصحافيين تنـاولَ دورِ الإعلامِ في مستجدّاتِ هذا العصرِ والعلاقاتِ المتبادلةِ بينه وبينَ ما حدثَ ويحدثُ في العالمِ.. بل إنَّ هناكَ من يعتقدونَ بأنَّ الكثيرَ ممّا حدثَ في المعسكرِ الشرقي كان بسببِ الإعلامِ نتيجةً للحربِ الباردةِ التي كانت الوسائلُ الإعلاميةُ من أهمِّ عتادها.. بل إنَّ جورباتشوف نفسه قالَ إنَّه ” ما كانَ بمقدورِ عمليةِ إعادةِ البناءِ بلوغُ المستوى الذي هي عليه اليوم في مناقشةِ كافةِ معضلاتِ عمليةِ التغييرِ الواسعةِ والمتناقضةِ والمتعدّدةِ الجوانبِ لو لم تنخرط في الحالِ وسائلُ الإعلامِ الجماهيري في هذه العمليةِ وتمارسُ دورها بنشاطٍ وبالشكلِ اللائقِ”.
إذن, الإعلامُ هو القـوّةُ المعاصرةُ التي تقفُ بمفردها على ساحةِ القدرةِ لتغييرِ الإنسانِ من الداخلِ عن قناعةٍ ورضى وهو أيضا – أي الإعلام- القوّةُ التي تعتمدها المنظماتُ الدوليةُ وفي مقدِّمتها اليونسكو وتوصي بها في التنميةِ والتطوّرِ, كما اعتمدتها القوى المعاصرةُ في تحقيقِ تبعيــةِ الأضعفِ لها.. إذن, الاقتصــادُ لم يعد – على أهميتـه – بقادرٍ بمفرده على تحقيقِ غاياتِ الدولِ الكبرى فيما يسمى بالعالمِ الثالثِ.. وذلك على الرغمِ من أنَّ القوّةَ الاقتصاديّةَ كانت الأداةَ الفاعلةَ التي استثمرتها هذه الدولُ في الستينياتِ وبداية السبعينياتِ.. وعندما أيقنتْ أنّها لن تحقّقَ غاياتها بالكاملِ وبشكلٍ مستمرٍّ وأنّ الحاجةَ وحدها التي أجبرتْ دولَ الضعفِ على إعلانِ التبعيةِ عن غيرِ قناعةٍ، بدأت تفكرُ في وسيلةٍ أخرى أهمّ وأقوى فاتّجهت نحو ميدانِ الاتّصالِ.. وعندما توصّلت هذه الدولُ الكبرى من جانبٍ آخر إلى حقيقةِ أنّ المذهبيةَ السياسيةَ هي الأخرى يصعبُ فرضها.. وأكبر دليل على ذلك الأيدلوجيةُ الماركسيةُ التي أثبتتْ الأحداثُ المعاصرةُ مدى هشاشتها وانفضاضِ الناسِ من حولها بعد انهيارها في معقلها.. اتّجهتْ أيضا لاستخدامِ قوّةِ الاتصالِ, ومثال آخر يتمثّلُ فيما حدثَ إبّان أزمةِ الخليجِ حينما وجدنا بعضَ الدولِ التي يعتمدُ اقتصادها إلى حدٍّ كبيرٍ على دولِ الخليجِ وقفَ موقفا مخالفا للإجماعِ العالمي, ولعلَّ من أهمِّ أسبابِ ذلك الخللَ في الاتّصالِ وضعفَ التواصلِ الإعلاميِّ بين الدولِ المانحةِ وشعوبِ تلكَ الدولِ المخالفةِ. وإذا تطرقنا إلى القوّةِ العسكريّةِ نجدُ أنّها محدودةُ التأثيرِ في مجالِ تحقيقِ الغاياتِ طويلةِ المدى, وذلك بحكمِ محدوديّةِ زمنها وما تخلفه من آلامٍ وكوارثَ وما تستثيره من كرهٍ وعداءٍ.. ولكلِّ ما تقدّمَ تبقى القوّةُ الإعلاميةُ هي القاسم المشترك بين هذه القوى ووفقا لهذهِ الحقيقةِ يكونُ النّظرُ إلى وسائلِ الإعلامِ كما يكونُ التعاملُ معها..
وقد ترونَ من المناسبِ إعطاءَ نبذةٍ مختصرةٍ عن ملامحِ التطوراتِ الكبيرةِ والمتلاحقةِ في السّاحةِ الاتّصاليةِ التي أفرزتْ القوّةَ الإعلاميةَ.. وهي القوّةُ التي تحاصرنا في كلِّ زمانٍ ومكانٍ سواءً برغبتنا أو بدونها.. وإذا جازَ إطلاقُ صفةٍ محدّدةٍ لأبرزِ وجوهِ هذا العصرِ الذي نعيشه فيمكنُ القولُ إنّه عصرُ الاتّصالاتِ وانفجارِ المعلوماتِ.. ويقولُ رالف لوينستاين: إنّ هذا العصرَ هو عصرُ الاتّصالاتِ بالفعلِ، فكلِّ إنسانٍ يجدُ نفسه – بصورةٍ أو بأخرى- مقحما في موقفِ من مواقفِ الاتّصالِ ومرتبطا بالفهمِ وسوءِ الفهمِ.. ويقولُ: إنّ الكثيرَ من الرسائلِ الاتّصاليةِ تجتاحنا كأمواجٍ عاتيةٍ تحيطُ بنا من كلِّ الاتجاهاتِ.. ومنذُ أواخرِ الخمسينياتِ والاهتمامُ بالاتصالِ يحدثُ نموا مضطردا في أسبابِ الرسائلِ وتدفقها, وكانت النّتيجةُ أن سقطتْ حواجزَ اللغةِ وتعرّضت البيئاتُ الاجتماعيةُ للطمسِ والتذويبِ وتمزّقِ الكثيرِ من الهويّةِ الحضاريةِ.
لقد أصبحَ الإنسانُ محاصرا بالمعلوماتِ من كلِّ جانبٍ.. وازدحمَ الأثيرُ بالصوتِ والصورةِ والكلمةِ ولم يعدْ الإنسانُ قادرا على اتّخاذِ الرأي والموقفِ في معزلٍ عن وسائلِ الاتصالِ بل أصبحَ محكوما في قراراته وتحركاته بقوّةِ الاتصالِ.. وتمثّلُ السنواتُ الأولى من هذا القرنِ إرهاصاتِ الثورةِ الاتّصاليةِ التي بدأت بالإرسالِ الإذاعي والتّلفزيوني والاتّصالِ التّلفوني ثمّ تواصلتْ هذه الثورةُ إلى الأقمارِ الصناعيّةِ ( انتلسات عام 1965م) و ( انترسبوتنك عام 1971م) ثمّ كانَ ابتكارُ الهاتفِ المرئي الذي يجمع بين الصورةِ والصوتِ, وقد يصبحُ هذا النوعُ في متناولِ الاستخدامِ العامِّ قريبا.. واجتهدتْ دولُ المقدّمةِ في مواصلةِ العملِ التقني لتحقيقِ مخترعاتٍ في الساحةِ الاتصاليةِ حتّى وصلتْ إلى مرحلةِ البثِّ المباشرِ وإلغاءِ المسافاتِ والحدودِ الجغرافيةِ.
ويمكنُ القولُ بأنَّ الحربَ العالميةَ الثانيةَ كانت هي نقطةَ انطلاقِ وسائلِ الإعلامِ إلى ساحـةِ المعركةِ.. فبعدَ تلكَ الحربِ خرجَ الإعلامُ إلى الساحةِ العالميةِ قوّةً جديدةً ما لبثتْ أن استقطبتْ القوى السياسيةَ والاجتماعيةَ والاقتصاديةَ والثقافيةَ.. واحتلّتْ هذه القوّةُ – بفعلِ التقدّمِ التقني الهائلِ في ميدانِ الاتّصالِ وبحكمِ طبيعتها – مكانةً بارزةً أهّلتها للقيادةِ والسيطرةِ حتّى أصبحتْ في العصرِ الحاضرِ من أهمِّ أساسياتِ صناعةِ القرارِ السياسي والاقتصادي والاجتماعي.. وأيضا مصدراً من مصادرِ تشكيلِ السلوكِ وبلورةِ الرأي وهندسةِ الفكرِ.
وإدراكا من هذه الدولِ لأهميةِ القوّةِ الإعلاميةِ نشطتْ في استخدامها من أجلِ السيطرةِ والتحكمِ وكانت البدايةُ عبرَ وكالاتِ الأنباءِ العالميةِ الخمسِ وهي رويتر واليونايتدبرس والاسوشيتدبرس، ووكالة الأنباء الفرنسية وتاس السوفيتية.. وبلغَ الاهتمامُ بهذه الوكالاتِ أقصى مداه فنجدَ مثلا أنّ خدماتِ وكالةِ الاسوشيتدبرس تغطّي 115 دولةً ويعملُ بها خمسةُ آلافِ شخصٍ في 190 مكتبا, ووكالة اليونايتدبرس تغطّي 112 دولة ولها 160 مكتبا، أمّا الفرنسية فتقدم خدماتها لحوالي 15 ألف صحيفةٍ وثمانين من وكالاتِ الأنباءِ الوطنيةِ ومائتي محطةِّ راديو وتلفزيون ولها مراسلون في 140 دولةً, وبها ثلاثة آلاف موظّفٍ وتوفر خدماتها بعشرِ لغاتٍ, ولوكالـةِ رويتــر ستة آلاف موظـــفٍ وتقــدِّم خدماتها لاثني عشر ألف صحيفــةٍ وثلاثمائــة محطـّـة راديو وتلفزيون و 90 وكالةَ أنباءٍ وطنيةٍ, ويتبعُ لوكالة تاس ثلاثة آلاف موظفٍ ولها مكاتب في 140 دولةً.. وتحتكرُ هذه الوكالاتُ حوالي (80%) من الأخبارِ الدوليةِ.
وللزيادةِ في التوضيحِ من أجلِ تجسيدِ الحقيقةِ الإعلاميةِ نتابعُ لغةَ الأرقامِ ونقولُ إنَّه في إحصائيةٍ لليونسكو وجدَ أنّ الدولَ الصناعيةَ المتقدّمةَ تستخدمُ (92%) من الطيف اللاسلكي, ومن المدارِ الذي تطلقُ إليه الأقمارَ الصناعيةَ.. وأنّ هذه الدولَ تمتلكُ (98%) من إمكاناتِ الحاسبِ الآلي، وأنّ (70%) من سكانِ العالمِ وهم أبناء الدولِ الناميةِ في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية لا يملكون سوى (40%) من الصحفِ الصادرةِ في العالمِ.. و(22%) فقط من عددِ النسخِ المتداولةِ, وأنّ (48%) من أجهزةِ الراديو توجدُ في أمريكا الشماليةّ و (32%) في أوروبا, بينما نصيبُ آسيا لا يزيدُ عن (12%) وأمريكا اللاتينية عن (5%) وأفريقيا (2%) فقط..
أمّا بالنسبةِ لأجهزةِ التلفزيون فهي تصلُ إلى (37%) في أمريكا الشمالية, و (34%) في أوروبا, و (16%) في آسيا, و (9%) في أمريكا اللاتينية, و (3%) فقط في أفريقيا.
أمّا في مجالِ النشرِ فإنّ أمريكا وأوروبا والاتحاد السوفيتي وكندا واستراليا ونيوزلندا واليابان تنتجُ (81%) من مجموعِ الكتبِ في العالمِ، في حين لا تضمُّ هذه الدولِ أكثرَ من (30%) من مجموعِ سكانِ العالمِ, ممّا يدلُّ على أنّ (70%) من سكانِ العالمِ من الدولِ الناميــةِ لا ينتجـــون ســوى (19%) فقط من مجمـوعِ الكتبِ الصادرةِ سنويا.
أمّا بالنّسبةِ للبثِّ التلفزيوني فقد دخلَ هو أيضا إلى ساحةِ المعركةِ تقودُ ذلك أمريكا التي تصدرُ حوالي مائتي ألفِ ساعةٍ في السنةِ إلى العالمِ, وتقومُ شركاتُ التلفزيون الأمريكية بسيطرةٍ كبيرةٍ على الساحةِ العالميةِ, فمثلا شبكة (CBS) توزّعُ خدماتٍ ومنتجاتٍ في مائةِ دولةٍ, والـ (ABC) تصدرُ برامجها لـ 60 دولةً, والـ (NBC) تسوقُ منتجاتها إلى مائةٍ وخمسَ عشرةَ دولةً .. أمّا بريطانيا فتنتج لدولِ العالمِ حوالي 50 ألف ساعةٍ من البرامــجِ سنويا.. وتصدرُ فرنسا 30 ألف ساعةً برامجيةً في السنةِ تبيعها لـ 85 دولةً.. أمّا الاتحادُ السوفيتي فقد كانَ يسيطرُ على ما بين (30%) إلى (40%) من البرامجِ التلفزيونية في المعسكرِ الشرقي. ونجدُ أنّ أمريكا وحدها تسيطرُ على ما بين (30%) إلى (70%) من البرامجِ التلفزيونيةِ المذاعةِ.
وعلى الرغمِ من أنّ الثـورةَ الاتصاليــةَ وانفجارَ المعلوماتِ الذي اجتاحَ العالمِ خلالَ هذا العصرِ قد لقيا الكثيرَ من الترحابِ والتفاؤلِ والتقديرِ والإعجابِ وبخاصّةٍ من جانبِ الدولِ الناميةِ.. إلا أنّ الآثارَ التي أدّى إليها التطوّرُ التقني في الاتّصالِ والمعلوماتِ أعادَ التفكيرَ في ذلك الانبهارِ خاصّــةً لدى بعضِ الدولِ الحريصـــةِ على هويّتهــا واستقلالها الثقافي والسياسي.. ولذا جأرَ العالمِ الثالثِ بالشكوى إلى منظمةِ اليونسكو بعد أن شعرَ بهجمةٍ استعماريةٍ جديدةٍ مختلفةٍ في مضمونها وفي سلاحها وتبيّن له أنّه قد خرجَ من استعمارٍ مادّي إلى استعمارٍ فكري, وذلك بعد أن أصبحَ استعمارُ الأرضِ لا يشكّلُ مطمعا كما كانَ سائدا في الماضي.. ولكنَّ استعمارَ الأدمغة هو الأهمُّ وهو ما يجبُ أن تُوظّفَ له الجهود ولذا تنافست عليه قوى العالمِ الكبرى عبر الكلمةِ والصوتِ والصورةِ.
من هنا أوْلَتْ منظمةُ اليونسكو قضيةَ الاتصالِ وما سُمّي بالتدفّقِ الحـرِّ للمعلوماتِ من الأقوى إلى الأضعفِ أهمّيـةً خاصّةً عُقدَ من أجلِها العديد من المؤتمراتِ والندواتِ وكُتب عنها الكثير من المؤلّفاتِ والأبحاثِ والدراساتِ وتواصلَ هذا الاهتمامُ بتكوينِ لجنةٍ دوليةٍ في بدايةِ الثمانينياتِ عرفت باسم لجنةِ ماكبرايد وذلك لدراسةِ مشكلاتِ الاتصالِ, وتوصّلت هذه اللجنةُ إلى إنّ معنى الإعلامِ ( يشملُ جمعَ ومعالجةَ المعلوماتِ ونشرها من أجلِ فهمِ الظروفِ المحيطةِ بالأحداثِ للوصولِ إلى وضعٍ يمكّـنُ الشعوبَ من اتّخاذِ القراراتِ المناسبةِ).. وبهذا المفهومِ للإعلامِ فإنّ دولَ العالمِ النّامي تقعُ في منطقةِ الخطرِ بعد أن أصبحت السيطرةُ الإعلاميةُ حكرا على الدولِ الكبرى.. إذ لم تعدْ الشعوبُ – في زمنِ الحصارِ الاتّصالي- حرّةً في اتّخاذِ قراراتها.. فالرّأي والموقفُ وحتّى قرارِ شراءِ سلعةٍ أضحى يعتمدُ على هذا الكمِّ الهائلِ من المعلوماتِ التي تحاصرنا من كلِّ جهةٍ.
وفي مطلعِ الثمانينيات أيضا أقرَّ المؤتمرُ العامُّ لليونسكو ما سُمّي آنذاك بالنّظامِ الإعلامي الدولي الجديدِ، وذلك بهدفِ تحقيقِ نوعٍ من التوازنِ في تدفّقِ المعلوماتِ بشكلٍ لا يضرُّ على الأقلِّ بوحدةِ واستقلاليـةِ الـدولِ الناميةِ, والأهمُّ من ذلكَ حمايةُ الثقافات المحليّة من التهديمِ.. إلاّ أنّ ذلكَ النّظامَ لم يتجاوزْ في حقيقته التّنظيرَ باعتبارِ أنّ الــدولَ الناميةَ لا تملكُ القدرةَ التقنيةَ المناسبةَ ولا المقدرةَ على إنتاجِ المحتوى الذي يمكّنُها من المنافسةِ أو مسايرةِ الدولِ الكبرى.. واستمرَّ العالمُ الثالثُ – بكلّ آسفٍ – في موقعِ الشكوى بينما واصلتْ تلك الدولُ مسيرتها في استثمارِ المعلومةِ عبرَ وسائلِ الاتصالِ لتحقيقِ أهدافها.
هذه ملامحُ مختصرةٌ عن حقيقةِ القوّةِ الجديدةِ المعاصرةِ ماضيا وحاضرا.. وهي القوّةُ التي تتمثّلُ في وسائلِ الإعلامِ.. والتي كانَ لها دورٌ كبيرٌ في الكثيرِ من المتغيراتِ السياسيةِ والاقتصاديةِ والاجتماعيةِ ليسَ فقط على مستوى حدودِ الوطنِ لكلِّ دولةٍ ولكن – وهذا هو المهمُّ – على مستوى الساحةِ العالميةِ.. والسؤالُ هل بلغت هذه القوّةُ المعاصرةُ حدَّ النهايةِ؟.
في الحقيقةِ بين أيدينــا من المعلوماتِ ما يدعــو إلى إعطاءِ إجابــةٍ حاسمةٍ ولكن يمكنُ التأكيدُ أنّ الثـورةَ في تكنولوجيا الاتّصالِ لا تزالُ في قمّةِ أوجها.. ولا تزالُ تفاجئنا كلَّ يومٍ بجديدٍ.. ويبدو أنّنا سوفَ نشهدُ قريبا مع بدايةِ هذا العقدِ من هذا القرنِ مرحلةً جديدةً مختلفةً قد تفوقُ كلَّ المراحلِ السابقةِ.. وقد تتجاوزُ آثارها ما أحدثته سابقاتها.. ونعنى بذلكَ مرحلةَ ( البثِّ المباشرِ) وعندما نذكرُ آثارِ هذهِ المرحلةِ فإنّني أعني بذلك ما يمكنُ أن يحدثَ من دمارٍ للفكرِ والثقافةِ المحليّةِ.. وما يمكنُ أن يصيبَ الهويّةَ والقرارَ من ضياعٍ وفقدانٍ للاستقلالِ.. وأرجـو ألاّ يُفهمَ من ذلكَ أنّني ضدَّ التّواصلِ بين الثقافاتِ المختلفةِ والتّبادلِ المعرفي.. وأنّني أعتبرُ هذا النوعَ من البثِّ شرّا.. لا أبدا.. ولكن إذا أخذنا في الاعتبارِ القوّةَ الغربيّةَ التقنيةَ, والقوّةَ في الصناعةِ الإعلاميةِ من جانبٍ.. ثمَّ أخدنا في الاعتبارِ – من الجانبِ الآخرِ- الضعفَ الكبيرَ لوسائلِ الاتصالِ في العالمِ النامي.. وبخاصّةٍ في العالمِ العربيِّ والإسلاميِّ وتفشّي الأمّيّةِ فيه.. فإنّه يمكنُ التأكيدُ بأنّ الفكرَ والثقافةَ المحليةَ سيكونانِ في خطرٍ كبيرٍ وهو الأمرُ الذي قد يؤدّي إلى تحقيقِ التبعيةِ المطلقةِ.. ولكم أنْ تتصوّروا شعوبا تابعةً.. فاقدةً لهويتها فما هي حالها؟.. وكيفَ سيكونُ مستقبلها؟.. خاصّةً إذا عرفنا أنَّ من أهدافِ البثِّ المباشرِ الذي بــدأنا نلمسُ بوادره منذُ شهورٍ تحقيقَ أهـدافٍ تضمنُ التبعيةَ وتحقّقُ السيطرةَ.
وأذكرُ أنّ سموَّ الأمير خالد الفيصل قد كتبَ عن هـــذه القضيةِ قبـــل سنــواتٍ منبّها ومحــذّرا وعقبتُ على ذلكَ في حينــه بعـددٍ من المقالاتِ .. ولكن السؤال الدائم الذي يواجهنا به الجمهورُ هو: هل يمكنُ وصول البثِّ المباشرِ مباشرةً إلى أجهــزةِ الاستقبالِ في المنازلِ وكيف ومتى؟!.. وللإجابةِ عن ذلك لا بدَّ من الحديثِ ولو باختصارٍ شديدٍ عن الجانبِ التقني.
أوّلا: يتمُّ البثُّ التلفزيونيُّ- كما هو معلوم- بواسطةِ محطّاتِ الإرسالِ الأرضيّةِ باستخدامِ نطاقي التردداتِ المترية (VHF) والديسمترية (UHF)، بينما تستخدمُ الأقمارُ الصناعيّةُ لخدمتي الاتصالات والبثِّ التلفزيوني المباشرِ الموجاتِ السنتمتريةِ.
ثانيا: ترسلُ محطّاتُ الإرسالِ الأرضيّةِ الإشاراتِ التلفزيونيةِ ذاتِ التشكيلِ الاتساعي بنطاقٍ جانبي منبثقٍ (AM VSB TV Signal) بينما ترسلُ الأقمارُ الصناعيةُ الإشاراتِ التلفزيونيةَ ذات التشكيلِ (FM TV) ممّا يستوجبُ استخدامُ أجهزةٍ لإزالةِ التّشكيلِ التردّدي أوّلا لاستخراجِ الإشاراتِ الصوريةِ والصوتيةِ ومن ثمّ تغذيتها إلى جهازِ التلفزيون العادي.
ثالثا: لأسبابٍ فنيّةٍ وتنظيميّةٍ فإنّ الإشاراتِ الواصلةَ لسطحِ الأرضِ في منطقةِ التغطيةِ للأقمارِ الصناعيةِ ضعيفةٌ جدّا ( – 142 ديسبل وات لكلِّ مترٍ مربعٍ) لخدمةِ الاتصالاتِ، و (- 103 ديسبل وات لكلِّ مترٍ مربعٍ) لخدمةِ البثِّ التلفزيوني المباشرِ، بينما يلاحظُ أنَّ الحدَّ الأدنى للإشارةِ التّلفزيونيّةِ في المجالِ التردّدي الديسمتري مثلا لا يقلُّ عن ( – 76 ديسبل وات لكلِّ مترٍ مربعٍ).. وعليه يجبُ استخدامُ هوائياتٍ ذات كسبٍ أكبر ممّا للهوائياتِ العاديةِ للتمكّنِ من استقبالِ الإشاراتِ التلفزيونيةِ الصادرةِ من الأقمارِ الصناعيةِ.
نخلصُ من كلِّ هذا إلى أنّ البثَّ المباشرَ أصبحَ حقيقةً وإن كانَ لا بدَّ له من هوائياتٍ قد تتضمّنها أجهزةُ التلفزيونياتِ ذاتها.. إذن ستكونُ المرحلةُ الأولى من البثِّ المباشرِ – والتي بدأت فعلا – إمّا عن طريقِ تثبيتِ محطّاتٍ في المياهِ الدوليةِ أو الدولِ الصّديقةِ ترسلُ إشاراتها التي تصلها من القمرِ الصناعي إلى محطّاتٍ أخرى في مياهٍ دوليةٍ أو دولٍ صديقةٍ أخرى ويتمُّ تغطيةُ المناطقِ الجغرافيةِ الواقعةِ بين هاتين المحطّتين.. أو بتصميمِ أجهزةِ استقبالٍ ذات تجهيزٍ خاصٍّ.. أو هوائياتٍ قليلةِ التّكلفةِ سهلةِ التركيبِ.. وقد تمّتْ هذه المرحلةُ بالفعلِ إذ نشر في العامِ الماضي أنّ شركــةَ ( تلفازٍ) بريطانيةٍ جديدةٍ بدأت بثَّ برامجها بواسطةِ قمرِ الاتصالاتِ الصناعي ( استرا) الذي يدورُ على ارتفاعِ اثنين وعشرين ألفَ ميـلٍ فوقَ سطحِ الأرضِ.. وبدأ البثُّ من أربعِ قنواتٍ من أصلِ ستّ قنواتٍ.. وما على راغبي استقبالِ هذه الخدماتِ إلاّ تركيبُ أجهزةِ استقبالٍ خاصّةٍ فوقَ منازلهم, وتوقّعت الشركةُ تركيبَ مليون جهازٍ بنهايةِ العامِ الماضي.. وباكتمالِ البثِّ المباشرِ تكونُ ثورةُ التقنيةِ الاتّصاليةِ قد وصلتْ قمّتها.. ويصبحُ الشّعارُ من ( يمتلك الإعلامَ يملك العالمَ).. على وزن المقولةِ اليهوديةِ الشهيرةِ ( من يملك الذهبَ يصنع القوانينَ).
ويأتي سؤالٌ آخرُ:
في وسطِ هذهِ المتغيّراتِ السياسيةِ والاقتصاديةِ والاجتماعيةِ السريعةِ والمتناقضةِ التي يشهدُها هذا العصرُ .. وفي إطارِ الثورةِ التكنولوجيةِ المتفجّرةِ في مجالِ الاتصالِ والمعلوماتِ تُرى أين يقفُ عالمنا العربي؟.. لا تنتظروا منّي الإجابةَ واعذروني.. فالمنطقةُ العربيةُ تعيشُ حالةً خاصّةً .. وواقعا من الصعبِ تشخيصه.. ثمَّ إنَّ مثل هذا السؤال يحتاجُ إلى الكثيرِ من البحوثِ والدراساتِ العلميةِ المكثّفةِ والتي قد تنتهي- فرضيا- إلى إثارةِ الإحباطِ أو على الأقلِّ استثارةِ الشكِّ فيما كانَ وفيما سيكونُ.. فالعالمُ العربيُّ مرَّ عبرَ تاريخه خلال هذا العصرِ بظروفٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ واجتماعيةٍ مختلفةٍ ومتناقضةٍ .. إذ أنهكه الاستعمارُ في بدايةِ نهضته الحديثةِ وأنهك ذاته فيما بعد الاستقلالِ.. ولا تزالُ بعضَ دوله تقفُ في مرحلةِ ( اللا ثبات).. كما أنّه لا يزالُ بالنسبةِ للإعلامِ يقفُ في ساحةِ الاستهلاكِ سواءً فيما يتعلّقُ بالوسيلةِ أو المضمونِ .. ويتخوّفُ الكثيرُ من الأكاديميين وخبراءِ الاتصالِ من أن تكونَ المنطقةَ العربيّةَ أكثرُ المتضرّرين من ما يشهده العصرُ من مستجدّاتٍ ومتغيّراتٍ كبيرةٍ .. وليس هنا مجالُ الاسترسالِ في تشخيصِ المشكلةِ العربيةِ والظروفِ التي تمرُّ بها المنطقةُ وما حدثَ وما يمكنُ أن يحدثَ مستقبلا ولكن لا بدَّ من التأكيدِ بأنّ تسارعَ الأحداثِ الدوليةِ خلال سنواتٍ قليلةٍ مضت أدّى إلى انعكاساتٍ كبيرةٍ على منطقتنا العربيةِ .. فبعد أن تغيَّر مفهومُ توازنِ القوى الدوليةِ وظهورِ مفاهيمِ ” الوفاقِ الدولي” ثمَّ اختفاء المعسكرِ الشرقي وإعلامه من على خريطةِ السياسةِ الدوليةِ، وإقدام أوروبا على التوحّدِ في إطارِ السوقِ الأوروبيّةِ المشتركةِ، وتقارب الدولِ المتنازعةِ وجلوسها إلى مائدةِ المفاوضاتِ والدعوةِ إلى السلام في جنوبِ أفريقيا، وما حدثَ أثناء أزمةِ الخليجِ.. كلِّ هذه الأحداثِ المتسارعةِ انعكست وبشكلٍ كبيرٍ ليس فقط على القرارِ السياسي ولكن حتى على الأولوياتِ السياسيةِ في المنطقةِ العربيةِ.. فاستجدّت حقائقُ.. وغابت حقائقُ أخرى كانت بالأمسِ يقيناً وتغيّرت التحالفاتُ وبدأت مرحلةٌ من الشكِّ.. وأصبحَ لزاماً على بعضِ الدولِ العربيّةِ أن تمدَّ يدَ المصافحةِ لمن كانوا أعداءَ الأمسِ.. الأمرُ الذي أثّرَ بالتالي على حدوثِ ارتباكٍ شديدٍ في بعضِ السياسياتِ الإعلاميةِ العربيةِ.. ممّا أدّى ببعضها إلى التخبُّطِ في وضعِ أولوياتِ الرسالةِ الإعلاميةِ .. وأصبحَ التناقضُ في بعضِ الرسائلِ هو السمةَ السائدةَ في معظمِ التوجّهاتِ الإعلاميةِ العربيةِ .. وقد لا يكونُ ذلكَ مستغرباً إذا أخذنا في الاعتبارِ العلاقـةَ الوثيقةَ بين الإعلامِ والمتغيراتِ السياسيةِ والاقتصاديةِ والاجتماعيةِ وغيرها.. فالعلاقةُ القائمةُ بينهما تعتمدُ على التأثيرِ والتأثرِ وفي هذا الإطارِ لا يمكننا مناقشةَ قضيةِ الإعلامِ ومستجدّاتِ العصرِ دونَ الربطِ بينَ كلِّ هذهِ العواملِ من أجلِ الوصولِ إلى حقائقَ واضحةٍ .. إذ إنّه لا يمكنُ فهمُ الاتّصالِ بدون الرجوعِ إلى أبعاده السياسيةِ .. وعلى هذا الأساسِ قامت النظرياتُ الإعلاميةِ الأربعِ التي كانت تسمّى بالنظرياتِ التحرريّةِ والسلطويّةِ والشيوعيّةِ والمسئوليةِ الاجتماعيّةِ .. وهي النظرياتُ التي انتهى إليها عالمٌ إعلاميٌّ أمريكيٌّ بارزٌ هو “ولبورشرام” مع آخرين.. ووجدت احتفاءً أكاديميا وإعلاميا آنذاك.. وبصرفِ النظرِ عن هذهِ النظرياتِ فإنّه لم يكنْ هناك في الواقعِ إلا نظامانِ إعلاميان بارزانِ هما النظامُ الإعلامي الغربي والنظامً الإعلامي الشرقي.. وكان عالمنا العربي يتأرجحُ بين هذينِ النظامينِ وفقا لما تمليه الانتماءاتِ السياسيةِ مع شيءٍ من التعاملِ مع النظريةِ السلطويةِ في بعضِ الجوانبِ.. ومهما يكن من حقيقةِ الإعلامِ العربي وهي حقيقةٌ تمثّلُ حالةً خاصّةً وتحتاجُ إلى دراسةٍ خاصّةٍ.. فإنّ الإعلامَ عموما وجدَ نفسه فجأة أمامَ عدّةِ متغيّراتٍ سياسيّةٍ دوليةٍ متلاحقةٍ كما سبق ذكره ويمكنُ إيجازُ أهمّها في:
1- سقوطُ الشيوعيةِ برموزها الضخمــةِ, وتصدّعُ المعسكرِ الشرقي, وظهورُ التوتّراتِ السياسيةِ داخل دوله, والنزاعات العرقية التي تعصف به, وبالتالي سقوط النظامِ الإعلاميِ الشرقي.
2- تطورُ العلاقاتِ السوفيتيةِ الأمريكيةِ, واختلالِ موازينِ القوى بينهما, وبدء مرحلةٍ جديدةٍ أصبحَ هدفها التعاونَ من أجلِ إنقاذِ الاتحادِ السوفيتي من الانهيارِ والفوضى الداخليةِ.. وبذلك توارت مفاهيمُ الحربِ الباردةِ وسباقُ التسلّحِ.
3- تجديدُ طلاءِ الصورةِ الدوليةِ للولاياتِ المتحدةِ الأمريكيةِ بعد سقوطِ البناءِ الشيوعي والانتصاراتِ التي حقّقتها في الساحةِ الدوليةِ مؤخرا.
4- الاتجاهُ الأوروبي نحو الوحدةِ الأوروبيةِ المتكاملةِ بخطى ثابتةٍ وأصبحت أوروبا تبحثُ لنفسها عن دورٍ مهمٍّ وفعّالٍ على خريطةِ السياسةِ الدوليةِ.
5- التقاربُ بين الدولِ الصغيرةِ المتصارعةِ في إفريقيا وأمريكا اللاتينيةِ والتي كانت تمثّلُ مناطقَ ساخنةً على مستوى العالمِ كنتيجةٍ لتغيّرِ علاقاتِ القوى بين المعسكرين الغربي وما كان يُسمّى بالشرقي.
6- الاقترابُ من نزعٍ كاملٍ للتفرقةِ العنصريّةِ في جنوبِ أفريقيا.
أمّا بالنّسبةِ للعالمِ العربي فإنّ أهمَّ أحداثه الجديدةِ غيرِ المستمرّةِ بعد نهايةِ المعسكرِ الشرقي حدوثُ كارثةِ الخليجِ وما تبعها من إحباطٍ للنفسِ العربيةِ وانكسارٍ للآمالِ .. وشكٍّ في الحاضرِ والمستقبلِ .. وتفكّكٍ لعلاقاتِ بعضِ الدولِ العربيةِ.. وعدمِ قدرةِ بعضِ الدولِ العربيةِ على فهمِ المعطياتِ الدوليةِ المعاصرةِ أو عدمِ قدرتها على التكيّفِ معها.. وبهذا الواقعِ لعالمنا العربي نشأ ما يمكنُ تسميته بأزمةِ ثقةٍ ليس فقط بين بعضِ الأنظمةِ العربيةِ ولكن حتّى بين الشعوبِ ذاتها ممّا زلزل الكثيرَ من حقائقِ الأمسِ والمفاهيمِ التي اقتنعَ الناسُ بها وردّدوها لسنواتٍ طويلةٍ.. وهنا وجدَ الإعلامِ العربي نفسه أمام عملٍ شاقٍ ومضنٍ من أجلِ العملِ على الخروجِ من مرحلةِ الشكِّ وعدم الثباتِ والعمل أيضا على إعادةِ الثّقـةِ بالذاتِ وتحقيق التكاملِ الإقليميِ للكياناتِ العربيةِ.. فهل يستطيعُ الإعلامُ العربيُّ بواقعه الحالي تحقيقَ ذلك؟!.. هذا سؤالٌ تطولِ إجابته ولن نتعبَ أنفسنا في البحثِ عن التفاصيلِ.. ولكن يمكنُ القولُ إنّ الإعلامَ العربي لا يمكنُ أن يقفَ بمعزلٍ عن هذه التطوّراتِ حتّى ولو أرادَ..
ولا بدَّ للرسالةِ الإعلاميةِ أن تضعَ لنفسها خططا واستراتيجياتٍ تتّفقُ ومجرياتِ الأحداثِ الدوليةِ المتلاحقةِ.. ولا بدَّ أن يدركَ هذا الإعلامُ أنَّ الإرهاصاتِ الأوليةِ للسيطرةِ الجديدةِ للنظامِ الإعلامي الجديدِ والذي تمثّله الولاياتُ المتحدةُ الأمريكيةُ وأوروبا تشيرُ إلى أنّ الجهودَ القادمةَ سوفَ تتجهُ بعد انهيارِ المعسكرِ الشرقي إلى الساحةِ الإسلاميةِ بدايةً من المنطقةِ العربيةِ.. وما لم تتحرّك للتصدّي للمحاولاتِ الجديدةِ ذات الأهدافِ بعيدةِ المرامي فإنَّ الثقافةَ والهويةَ والاستقلالَ في الفكرِ والرأي والقرارِ سوفَ تكونُ جميعها في خطرٍ كبيرٍ لا يعلمُ مدى أثره إلا اللهُ.
سموَّ الأمير.. أيُّها الأخوةُ الكرامُ .. وكما استمعتم فقد حاولتْ بإيجازٍ في هذه المحاضرةِ المختصرةِ عدمَ تجاوزِ منطقةِ السؤالِ.. بالإضافةِ إلى استعراضِ بعضِ الحقائقِ عن قضيةٍ كبيرةٍ ومهمّةٍ للغايةِ .. وهي قضيةٌ أعتقدُ أنَّها تشغلُ حالياً المؤسّساتِ الرسميّةَ والإعلاميّةَ في الكثيرِ من الدولِ والمنظّماتِ والهيئاتِ المحليّةِ والدوليّةِ.. وتتسابقُ دولُ العالمِ وسطَ هذه الظروفِ والمستجدّاتِ المعاصرةِ ما بين مهاجمٍ لاحتلالِ العقولِ وتحقيقِ المكاسبِ وما بين مجتهدٍ لحمايةِ الهويّةِ والاستقلالِ.. وأيضا ما بين محاولٍ لمجاراةِ الآخرين وما بين غافلٍ عمّا يدورُ..
وأعرفُ أنّكم تدركونَ جُلَّ ما قيلَ في هذه المحاضرةِ .. وأنّ لديكم من المعرفةِ والثقافةِ ما يفوقُ معرفةَ المحاضرِ .. ولكن- سامح الله- أخانا محمد الحميد الذي وضعني في هذا المقامِ الذي لا أحسدُ عليه.. فقد عدت من سفر الإجازةِ قبل الأمسِ وأجهدت نفسي لكتابةِ هذه السطورِ أمس.. فإذا كنت قد قلتُ ما يفيدُ فإنّ ذلك من فضل اللهِ وتوفيقه.. وأنّ لم يكن فحسبي أنّني اجتهدتُ..
وعلى كلِّ الأحوالِ .. أرجو منكم المعذرة في القصورِ.. ولكم جميعا جُلَّ التقديرِ..
د. ساعد العرابي الحارثي
ملتقى أبها الثقافي