محاضرات عامة

البثِّ المباشرِ وأثره على المنطقةِ العربيَّةِ !

1411هـ -1990م:

قبْلَ حوالي ثماني سنواتٍ كانَ الحديثُ عنِ البثِّ التلفزيونيِّ المباشرِ نوعاً منَ التخمينِ .. كانَ الناسُ- وخاصّةً المتخصِّصينَ منهم- يعتقدونَ أنَّ ذلكَ لن يكونَ ممكناً تقنياً .. وكانَ لديهم ما يبرِّرُ اعتقادهم .. وعندما كتبتُ عنْ هذهِ القضيَّةِ آنذاكَ منبهاً ومحذِّراً اعتقدَ الكثيرُ أنَّ في ذلكَ مبالغةٌ لا تسندُها حقائقُ.
وفي إحدى المحاضراتِ العامَّةِ التي اشتركتُ فيها أصرَّ أحدُ المتخصِّصينَ في علومِ الأقمارِ الصناعيَّــةِ بأنَّ البثَّ المباشرَ إلى أجهزةِ الاستقبالِ التلفزيونيِّ لن يحدثَ ومعَ أنَّني حاولتُ التَّدليلَ بالكثيرِ منَ المعلوماتِ إلَّا أنَّهُ لم يقتنعْ بذلكَ .. لكنْ كما يقولُ المثلُ السائرُ: ( الماء يكذِّب الغطَّاس) .. بدأ البثُّ المباشرُ وباتَ الناسُ هنا يشاهدونَ العديدَ من المحطَّاتِ التلفزيونيـَّـةِ بواسطــةِ هوائيــاتٍ ليستْ غاليــةَ الثَّمنِ .. ما كانَ بالأمسِ تخمينا أصبحَ اليومَ حقيقةً .. وغدًا قدْ لا يحتاجُ النَّاسُ حتَّى إلى هذهِ الهوائياتِ إذ إنَّ الكثيرَ منَ الشَّركاتِ تعملُ الآنَ على تصميمِ أجهزةِ استقبالٍ تلفزيونيَّةٍ باستطاعتها الاستقبالَ المباشرَ.
هذا منَ الناحيةِ التقنيَّةِ التي سنتناولُها بالتَّفصيلِ فيما بعدُ أمَّا من حيثُ أثرِ وخطرِ هذا البثِّ على المجتمعاتِ المستقبلةِ وخاصَّةً في النَّاميةِ الأقلِّ حظَّا في التَّعليمِ والوعي فقد كتبَ عن ذلك الكثيرُ واجتهدَ الكثيرون من علماءِ الاتِّصالِ والاجتماعِ وحتَّى علماءِ السِّياسةِ في أجراءِ الدِّراساتِ والبحوثِ التي انتهتْ إلى أنَّ الكثيرَ منَ المجتمعاتِ في هذهِ الدُّولِ سوفَ تقعُ في منطقةِ الخطرِ.. وهمْ يعنونَ بذلكَ ما سوفَ يصيبُ الهويـَّةَ الثقافيَّةَ منْ تهديمٍ .. وما سوفَ يحدثُ للخصوصيَّةِ والاستقلالِ في الفكرِ والرَّأي والموقفِ من إذابةٍ.. وقرَّرَ بعضُ هذهِ الدِّراساتِ والبحوثِ بأنَّ البثَّ التلفزيونيَّ المباشرَ هوَ – في حقيقتِهِ- غزوٌ جديدٌ لاستعمارِ الرؤوسِ.
الغريبُ في الأمرِ أنَّ هناكَ الكثيرَ من الدُّولِ النَّاميةِ ترحبُ بهذا البثِّ وتعتبرُهُ نافذةً جديدةً للمعرفةِ والتَّبادلِ الحضاريِّ.. على الرَّغمِ منْ أنَّ التَّبادلَ – هنا- ليسَ واردا إذْ إنَّ البثَّ سوفَ يكونُ في اتجاهٍ واحدٍ منَ الدُّولِ الأكثرِ تقدُّما إلى الدُّولِ الأضعفِ, وذلكَ بحكمِ التَّقدُّمِ التِّقنيِّ في مجالِ الاتِّصالِ وبحكمِ التَّمكُّنِ منَ الصِّناعةِ لمضمونِ البرامجِ التِّلفزيونيَّةِ.
هذهِ حقائقُ يجبُ أنَّ نعترفَ بهَا قبلَ الحديثِ عَنْ أثرِ البثِّ المباشرِ عَلَى المنطقةِ العربيةِ.. فكيفَ سيكونُ هذا الأثرُ ؟. ومَا هيَ أبعادُهُ؟. وهل سيكونُ للمنطقـةِ العربيــَّةِ اهتمامٌ خــاصٌّ في ذهــنِ المرسلِ؟.. ولماذا يعطي الغربُ أهميــَّةً خاصَّـةً لمنطقتِنا العربيَّةِ عندما يتعلَّقُ الموضوعُ بوسائلِ الغزوِ والسَّيطرةِ؟.
أعرفُ أنَّ إجابةَ هذهِ الأسئلةِ ليستْ سهلةً .. وأنَّ الأمر يستحقُّ الكثيرَ من البحثِ والدِّراسةِ لاستقراءِ جوانبَ عديدةٍ من أجلِ إجابةٍ مقنعةٍ .. ولكنْ ما يعنينا هنا هوَ التلميحُ للأهدافِ وحجمُ الأثرِ من خلالِ استقراءٍ تاريخيٍّ سريعٍ.
إذنْ, دعونا- والحديثُ عن أثرِ البثِّ المباشرِ على المنطقةِ العربيَّةِ- أنْ نقسمَ الحديثَ إلى ثلاثةِ أجزاءٍ:
الجزءُ الأوَّلُ وسيكونُ عنَ العلاقةِ العقديـَّـةِ، والجــزءُ الثاني منَ الحديــثِ عنِ الخلفيَّـةِ التاريخيَّـةِ للاتِّصالِ بصرفِ النظرِ عمّا إذا كانَ مباشراً أو غير مباشرٍ.. أمَّا الجزءُ الثالثُ فسيكونُ عنِ الجانبِ التِّقنيِّ للبثِّ المباشرِ.
لا شكَّ أنَّكم تعرفون أنَّ هناك ثلاثَ عقائدَ رئيسيَّةً تتقاسمُ الكرةَ الأرضيَّةَ.. هيَ العقيدةُ الإسلاميَّةُ والمسيحيَّةُ واليهوديَّةُ.. وما عداها دياناتٌ تابعةٌ .. فإذا كانتِ الديانتانِ المسيحيَّةُ واليهوديَّةُ ترتبطانِ برباطٍ عقديٍّ قويٍّ.. ويعتقدُ معتنقوهما- وخاصَّةً المسيحيِّين منهم- أنَّهمَا -أيّ الديانتينِ- مكمِّلتانِ لبعضٍ.. فإنَّ العقيدةَ الإسلاميَّةَ في المقابلِ بحكمِ استقلاليَّتِها وقوَّةِ انتماءِ المسلمين لها وإمكانيَّةِ اعتناقِها منْ قبلِ أصحابِ العقائدِ الأخرى تصبحُ هدفا رئيسيَّا للهجومِ بأيّ سلاحٍ كانَ .. وبأيَّةِ وسيلةٍ كانتْ.. مباشرةً أو غيرَ مباشرةٍ.
ويشهدُ التاريخُ أنَّ الآخرَ عملَ جادًّا بالوسائلِ المختلفةِ وكانَ منْ أهمَّهَا القوَّةُ العسكريَّةُ لمحاربةِ الإسلامِ محاربة قويَّة، ولا شكَّ أنّ هذهِ المحاربةَ كانتْ إدراكا لقوَّةِ ومكانةِ الإسلامِ.. أضفْ إلى ذلكَ المكانةَ الجغرافيَّةَ والاقتصاديَّةَ التي يتمتَّعُ بها العالمُ الإسلاميُّ.
هذهِ العواملُ كلُّها استوجبتْ توظيفَ الكثيرِ منَ القوى للهجومِ على العالمِ الإسلاميِّ سواءً ما كانَ بالطُّرقِ العسكريَّةِ أو بالطُّرقِ السلميَّةِ .. ولا أعتقدُ أنَّ التَّفاصيلَ الدَّقيقةَ – اليومَ – لهذهِ القوى يعنيكمْ هنا ولهذا سوفَ نتركُ ذلكَ لثقافةِ المستمعِ وذاكرتِهِ.
لقدْ شهدتْ السَّاحةُ الإسلاميَّةُ الكثيرَ من الحروبِ المستمرَّةِ إلى غدٍ .. ولم يعدْ منظرُ الدِّماءِ عليها غريبا .. وواجهَ الإسلامُ الكثيرَ من التحدِّياتِ ولا يزالُ يقفُ في المواجهةِ معَ الكثيرِ منَ الأعداءِ الذينَ يجتهدونَ في النَّيلِ منهُ سواءً منَ الداخلِ أو منَ الخارجِ .. ولكنْ الجديدُ في الأمرِ في هذهِ المعاركِ المستمرَّةِ هو السلاحُ .. وفي الحقيقةِ أنَّ العداءَ وكذا الحروبَ قائمةٌ بينَ المسلمينَ وأعدائِهم منذُ أوَّلِ يومٍ تمَّ فيهِ الاتِّصالُ بينَ جبريلَ ومحمَّدٍ – صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- .. إلَّا أنّ السلاحَ هوَ العاملُ المتغيَّرُ في هذهِ الحروبِ .. فمنَ الدَّسِّ والتَّشويهِ والإثارةِ عندما عزمَ اليهودُ والمنافقونَ على محاربةِ الإسلامِ في المدينةِ وذلكَ بعدَ أنْ وطَّدَ هذا الدينُ الحنيفُ أركانَهُ .. إلى النَّارِ والبارودِ واستعمارِ الأرضِ في العصورِ المتتاليةِ .. ولكنَّكمْ تعرفونَ أكثرَ ممّا أعرفُ عنِ الحملاتِ الصّليبيَّةِ وما نتجَ عنهَا .. وتعرفونَ أيضا الزَّحفَ الغربي وما نتجَ عنْهُ من استعمارٍ للأرضِ بهدفِ استعمارِ الإنسانِ أيضا.. وليسَ هنا مجالُ الحديثِ أو السردِ التاريخيِّ عن الطابعِ النَّاريِّ الذي اتَّسمتْ به العلاقةُ بينَ الإسلامِ وخصومِهِ .. بيدَ أنَّ الشَّيءَ الذي نودُّ أنْ نؤكِّدَ عليهِ هوَ أنَّ الحربَ مستمرَّةٌ حتَّى لو اختلفتْ وسائطَهَا.. يقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ ( ولنْ ترضى عنكَ اليهودُ ولا النصارى حتَّى تتَّبعَ ملَّتَهم), وهذا قولٌ قاطعٌ يجبُ على المسلمينَ إدراكَه والعملَ بموجبِهِ.
وإذا عُدنا بالذَّاكرةِ إلى الخلفِ قرونا نجدُ أنّ الهجومَ لم يحتدمْ بالشَّكلِ الذي نعرفُهُ بين أيَّةِ ديانةٍ وأخرى كما حصل بين الإسلامِ والمسيحيَّةِ .. فقد استمرَّتِ الحروبُ الصّليبيَّةُ قرابةَ قرنينِ حتَّى جاءَ صلاحُ الدِّينِ ليضعَ حدًّا لهذهِ الحروبِ بانتصارِ المسلمينَ.
ثمَّ جاءَ التَّتارُ ليواصلوا الحروبَ الصّليبيَّةَ ولكنْ استطاعَ المسلمونَ مرَّةً أخرى من الانتصارِ في المعركــةِ الشَّهيرةِ – التي تعرفونَها – ( عينِ جالوت), وظهرتِ الخلافةُ العثمانيَّةُ وتوسَّعتْ حتَّى وصلتْ إلى قلبِ أوروبا فيينا عاصمةِ النّمسا.
ثمَّ نامَ المسلمونَ وصحتْ أوروبا فكانَ ما كانَ ممّا تعرفونَهُ من تجزئةٍ للعالمِ الإسلاميِّ وغزوِ أراضيهِ واحتلالِهَا.. ولعلَّكمْ تتذكَّرونَ ما قالَــهُ قائـــدٌ أوروبيٌّ مسيحيٌّ عندمــا وقفَ في نهايــةِ الحــربِ العالميـَّـةِ الأولى على قبرِ صلاحِ الدِّينِ الأيوبيِّ وقالَ: ( ها قد عدنا يا صلاحَ الدِّين) .. وبعدَ استعمارٍ طويلٍ تحرَّكتْ بعضُ أجزاءِ العالمِ العربي المحتلِّ وقادَ فيهِ المسلمونَ هذهِ الحركةَ.. فكانَ ما كانَ في الجزائرِ .. وفي مصرَ .. وفي ليبيا .. ولا يزالَ المسلمونَ يحاولونَ .. إلَّا أنَّ القوى المعاصرةَ من مسيحيَّةٍ ويهوديَّةٍ وماركسيَّةٍ تدركُ – ظلما- أنَّ المسلمينَ هم الخطرُ الذي تجبُ محاربتُهُ .. واسمحوا لي أنْ أقولَ بأنَّ للهجومِ على العربِ المسلمينَ أهدافا كثيرةً من أهمَّها تغريبُ المجتمعاتِ وإبعادهم عن عقيدتِهم الإسلاميَّةِ، والتَّشكيكُ في مضامينِهم الاجتماعيـَّــةِ.. ويبدأ ذلكَ -كما يقولُ– جلالُ كشك: بإقناعِ هذهِ الأمَّةِ بأنَّها متخلِّفةٌ وأنَّ سببَ هذا التَّخلفِ هو ارتباطها بتاريخِها وعقيدتِها .. ويقولُ عن المجتمعِ المُغَرَّبِ هو ( ذلك المجتمعُ الذي تزدحمُ طرقاتُه بأفخرِ وأحدثِ السَّياراتِ المستوردةِ .. ويرتدي أهلُهُ أحدثَ المنسوجاتِ المستوردةِ، وعلى أحدثِ الموضاتِ الغربيَّةِ، ويثرثرُ مثقَّفوه في قاعاتٍ مكيَّفةٍ .. يناقشونَ مشاكلَ المجتمعِ الغربي وآلامَهُ ويملأونَ صفحاتٍ من ورقٍ مستوردٍ تطبع بحبرٍ مستوردٍ وبآلاتٍ مستوردةٍ حول قضايا الوجوديَّةِ ومسرحِ اللَّامعقولِ والجِّنسِ الجماعي .. وتطوُّرِ حركةِ الهيبز.. وليتَهُ قالَ أيضا الحداثةَ والأصالةَ.. كلَّ ذلك على بعدِ خطواتٍ من مشاكلِ مجتمعاتِهم).
وانظروا إلى التَّغريبِ في التَّعليمِ وفي الإعلامِ وفي كلِّ شؤونِ الحياةِ .. وذلكَ ما كانَ ليكونَ لو لم يكنْ هناكَ تخطيطٌ مسبقٌ.
لقدْ أدركَ الغربُ والشَّرقُ من خصومِ الإسلامِ أنَّ احتلالَ الأرضِ يفجِّرُ قوَّةَ الرَّفضِ عندَ سكانِ الأرضِ الأصليينَ، ويدفعُ إلى كراهيةِ المستعمرِ وبالتالي إلى مقاومتِهِ, وأثبتتِ التَّجربـةُ فشلَ المستعمرِ في قتلِ روحِ المقاومةِ في مستعمراتِهم, وبصرفِ النَّظرِ عنِ العاملِ الزَّمني .. فقد استمرَّ الاستعمارُ لبعضِ الأقطارِ إلى أكثرَ من قرنٍ من الزَّمانِ ومع ذلكَ استمرَّت المقاومةُ حتى رحلَ المستعمرون.. ولكنْ لم تتوقفْ الجهودُ والمحاولاتُ لتحقيقِ ما عجزوا عن تحقيقِهِ بالبارودِ وذلكَ بأيَّةِ وسيلةٍ أخرى، فإذا كانَ الاحتلالُ بالقوَّةِ يفجِّرُ قوَّةً مضادَّة فهل يمكنُ تحقيقُ الأهدافِ بدونَ دماءٍ ولا ضحايا, وأهمُّ من ذلكَ برضى وقبولِ المستهدفِ، فكانَ الاتِّجاه إلى الرؤوسِ بدلا من الأرضِ وهنا يأتي الجزءُ الثَّاني من حديثنا..
لقدْ ساعدَ التَّطوُّرُ التِّقنيُّ على تحقيقِ هذهِ الأغراضِ .. فكانتِ الثَّورةُ في وسائلِ الاتِّصالِ المعاصرةِ ومن أهمِّها التِّلفزيونُ والإذاعةُ والصَّحافةُ، ووجدَ الغزاةُ أنَّ هذه الوسائل أهمُّ بكثيرٍ من صواريخِ الأمسِ .. وجدوا أنَّ الكلمةَ والصُّورةَ والصَّوتَ هيَ الوسائطُ المعاصرةُ الأكثرُ تأثيرا والأضمنُ تحقيقا للأهدافِ .. والأقلُّ خسائرَ.. فهيَ تصطادُ ضحاياها دونَ إراقةِ دماءٍ .. وهيَ تقودُ النَّاسَ برضاهم حتَّى ولو كانَ على غيرِ هدى .. وقد ثبتَ علميا أنَّ وسائلَ الإعلامِ تؤثرُ على وجهةِ نظرِ الشَّخصِ بالنِّسبةِ للعالمِ وعلى الطَّريقةِ التي يفكِّرُ بها .. وهي أيضا لا تثيرُ حواسنا ولا تقدمُ لها المتعةَ فقط ولكنَّها تعملُ على تغييرِ طباعِنا عن طريقِ تغييرِ نسبةِ الأداةِ الحسيَّةِ التي نستعملُها .. لقد وجدوا ضالتَهم في أسلحةٍ تجدُ التَّرحيبَ من مستقبلِها .. واستغلوا الأميَّةَ والجهلَ وانعدامَ الوعي في العالمِ الإسلاميِّ فاتَّجهوا إلى السَّيطرةِ على العقولِ .. وذلكَ تحتَ شعارِ ( من يملكِ الفكرَ يستعمرِ العقولَ) على وزنِ المقولةِ اليهوديَّةِ ( من يملكِ الذَّهبَ يصنعِ القوانينَ).
دعونا إذن نقرِّرُ هذهِ الحقائقَ:
أوَّلا: العداوةُ الدَّائمةُ بينَ الإسلامِ وخصومِهِ وهم الأقوى في ظلِّ تفتُّتِ وضعفِ الأمَّةِ الإسلاميَّةِ.
ثانيا: التَّفوّقُ الفكريُّ والإبداعي للعالمِ الصناعيِّ وهم خصومُ الإسلامِ.
ثالثا: وجودُ وسائلَ حديثةٍ يمكنُ تسميتها بوسائلِ الاستعمارِ؛ ودعونا أيضا نسألُ ما هيَ وسائلُ الاستعمارِ الحديثةِ؟!
لقد وجدَ مستعمرُ الأمسِ ضالتَهُ في معطياتِ تقنيةِ اليومَ فاتَّجه إلى وسائلِ الإعلامِ لتحقيقِ الكثيرِ من أهدافِهِ.. ولعلَّ من أهمِّ الوسائلِ التي استخدمَها خلالَ الثَّلاثةِ عقودٍ الماضيَّةِ هيَ وكالاتُ الأنبـاءِ العالميَّةُ الخمسُ الكبرى .. بالإضافةِ إلى الوسائلِ الاتِّصاليَّةِ الأخرى .. وبدأنا نصلُ الآنَ إلى مرحلةِ البثِّ المباشرِ .. وسوفَ يكـونُ من أكثرِ الوسائلِ تأثيرا.. فإذا أخذنَا في الاعتبارِ القوَّةَ الغربيَّةَ التقنيَّةَ والقوَّةَ في الصناعةِ الإعلاميَّةِ بما يحقِّقُ التأثير، ثمَّ أخذنَا من الجانبِ الآخرِ الضعفَ الكبيرَ لوسائلِ الاتصالِ في العالمِ العربيّ والإسلامي وتفشي الأمِّيَّةِ فيهِ، فإنَّهُ يمكنُ التَّأكيدُ بأنَّ الفكرَ والثَّقافةَ المحليَّةَ سيكونانِ في خطرٍ كبيرٍ وهو الأمرُ الذي قد يؤدِّي إلى تحقيقِ التَّبعيَّةِ .. ولكمْ أن تتصورا شعوبا تابعةً .. فاقدةً لهويَّتِها .. وهذا من أهمِّ أهدافِ البثِّ المباشرِ .. وإذا تتبَّعنا بداياتِ هذا النَّوعِ من البثِّ خلالَ الأعوامِ القريبةِ الماضيةِ نجدُ أن شبكةَ البرامجِ الدِّينيَّةِ التي تشرفُ عليها الكنائسُ شبكة البثِّ المسيحيِّ (NBN) وشبكة (CBN) قد بدأت فعلا بثَّها المباشرَ من خلالِ القمرِ الصناعيِّ (SATCOM 3)، وهذهِ دلالةٌ واضحةٌ على بعضِ أهدافِ البثِّ المباشرِ .. ونأتي الآنَ إلى الجزءِ الثَّالثِ من حديثِنا وهو عن الجانبِ التِّقنيِّ للبثِّ المباشرِ.
أوَّلا: كمَا هو معلومٌ أنَّ البثَّ التلفزيونيَّ يتمُّ بواسطةِ محطَّاتِ الإرسالِ الأرضيَّةِ باستخدامِ نطاقي التَّردداتِ المتريَّةِ (VHF) والديسمتريةِ (UHF)، بينما تستخدمُ الأقمارُ الصناعيَّةُ لخدمتي الاتصالاتِ والبثِّ التلفزيونيِّ المباشرِ الموجاتِ السنتمتريةَ.
ثانيا: تُرسلُ محطَّاتُ الإرسالِ الأرضيَّةِ الإشاراتِ التلفزيونيَّة ذات التَّشكيلِ الاتساعي بنطاقٍ جانبي منبثقٍ (AM VSB TV Signal) بينما ترسلُ الأقمار الصناعيَّة الإشاراتِ التِّلفزيونيَّة ذات التَّشكيلِ الترددي (FM TV) ممّا يستوجبُ استخدامَ أجهزةٍ لإزالةِ التَّشكيلِ الترددي أولا لاستخراجِ الإشاراتِ الصوريَّةِ والصوتيَّةِ ومن ثمَّ تغذيتِها إلى جهازِ التلفزيونِ العادي.
ثالثا: لأسبابٍ فنيَّةٍ وتنظيميَّةٍ فإنَّ الإشاراتِ الواصلة لسطحِ الأرضِ في منطقةِ التَّغطيةِ للأقمارِ الصناعيَّةِ ضعيفة جدًّا ( -142 ديسبل وات لكلِّ مترٍ مربعٍ) لخدمةِ الاتصالاتِ و (- 103 ديسبل وات لكلِّ مترٍ مربعٍ) لخدمةِ البثِّ التلفزيوني المباشرِ، بينما يلاحظُ أنَّ الحدَّ الأدنى للإشارةِ التلفزيونيةِ في المجالِ الترددي الديسمتري مثلا لا يقلُّ عن ( – 76 ديسبل وات لكلِّ مترٍ مربعٍ).. وعليه يجبُ استخدام هوائياتٍ ذاتِ كسبٍ أكبرَ من ما للهوائياتِ العاديةِ للتَّمكّنِ من استقبالِ الإشاراتِ التلفزيونيَّةِ الصادرةِ من الأقمارِ الصناعيَّةِ.

نخلصُ من كلِّ هذا إلى أنَّ البثَّ المباشرَ ممكنٌ وإنْ كانَ لا بدَّ لهُ من هوائيَّاتٍ قد تتضمنُها أجهزةُ التلفزيوناتِ ذاتُها .. إذ ستكونُ المرحلةُ الأولى من البثِّ المباشرِ إمَّا عن طريقِ تثبيتِ محطَّاتٍ في المياهِ الدُّوليَّةِ أو الدُّولِ الصديقةِ ترسلُ أشارتها التي تصلُها من القمرِ الصناعي إلى محطَّاتٍ أخرى في مياهٍ دوليَّة أو دولٍ صديقةٍ أخرى ويتمُّ تغطيةُ المناطقِ الجغرافيَّةِ الواقعةِ بين هاتينِ المحطَّتينِ .. أو بتصميمِ أجهزةِ استقبالٍ تلفزيونيٍّ ذاتِ تجهيزٍ خاصٍّ .. أو هوائيَّاتٍ قليلةِ التَّكلفةِ سهلةِ التَّركيبِ .. وقد تمَّتْ هذه المرحلـــةُ بالفعلِ إذ نشرُ في العامِ الماضي أنَّ شركــةَ تلفازٍ بريطانيَّةٍ جديدةٍ بدأتْ ببثِّ برامجِها بواسطةِ قمرِ الاتصالاتِ الصناعي ( استرا) الذي يدورُ على ارتفاعِ اثنين وعشرين ألف ميلٍ فوقَ سطحِ الأرضِ .. وبدأ البثُّ من أربعِ قنواتٍ من أصلِ ستِّ قنواتٍ سيتمُّ استكمالُ استخدامِها قريبا .. ومن بين القنواتِ واحدةُ لبثِّ الأخبارِ على مدارِ 24 ساعة وأخرى للبرامجِ الموسيقيَّةِ والثالثةُ للأفلامِ السينمائيَّةِ والرابعةُ للأخبارِ الرياضيَّةِ، وما على راغبي استقبالِ هذهِ الخدماتِ إلا تركيبُ أجهزةِ استقبالٍ خاصَّةٍ فوقَ منازلِهم.. وتوقَّعتِ الشَّركةُ تركيبَ مليونَ جهازٍ هذا العام..
هذا هو البثُّ المباشرُ.. وهذهِ أهدافُهُ.. وهذهِ خطورتُهُ، وقد نقولُ جميعا إنَّ العالم العربيَّ والإسلاميَّ يقعُ في مواجهةِ تحدٍّ يستهدفُ سلبَ الهويَّةِ عقيدةٍ وثقافةٍ .. وحتَّى لو قال البعضُ: إنَّ البثَّ المباشرَ نافذةُ على الحضاراتِ الأخرى ووسيلةٌ من وسائلِ العلمِ والثقافةِ.. فهذا ليسَ صحيحا.. والسؤالُ: هل يجبُ أن نكتفيَ بالوقوفِ في ساحةِ الشكوى والنَّدمِ؟! ونعلنُ على الملأ الخوفَ من الهجومِ .. إنَّ القويَّ لا يرحمُ الضَّعيف.
هل نكتفي من العملِ بالتَّحذيرِ.. وهل نستمرُّ في موقفِ التَّشخيصِ للظَّواهرِ بينما أجسادنا تئنُّ من وطأةِ الحُمَّى؟ .. وأيضا هل يكونُ التَّوصيفُ بالأفعالِ النَّاجحةِ للغيرِ هو أقصى ما تحقِّقُهُ جهودُنا ؟.
وأخيرا.. هل نطلبُ من أعداءِ الإسلامِ والمسلمين أن يرأفوا بنَا ويرحمونا ويتركونا لحالنا لنجهدَ أنفسَنا بالاهتمامِ بالقشورِ بينما يعملُ أعداؤنا على اقتلاعِ الجذورِ؟.. هذه أسئلةُ مُرَّةٌ.. شوكةُ في الحلوقِ أعتقدُ أنَّنا نعيشُها كلما نظرنَا إلى الواقعِ المعاصرِ للأمَّةِ.. ويبدو أنَّ صوتَنا أطولُ باعا من فعلِنا.
إنَّ الحربَ الدَّائمةَ في العصرِ الحديثِ- كما سبقَ أن ذكرتُ- هيَ في المقامِ الأوَّلِ حربُ الكلمةِ والصَّوتِ والصورةِ.. بعيدا عن الرَّصاصِ والبارودِ.. ومن امتلكَ بالكلمةِ نواصي القومِ تمكَّن من اقتيادهم.
ولا شكَّ أنَّ المبادرةَ نحوَ الاستعدادِ لهذا القادمِ مطلبٌ دينيٌّ وقوميٌّ ووطنيٌّ واجتماعيٌّ قبلَ أن تتهاوى الهويَّةُ بالكاملِ.. ولذلك يتطلَّبُ من العالمِ العربي تحديدَ مفهومٍ جديدٍ لوسائلِ الإعلامِ يقومُ على أساسٍ من العقيدةِ والمضامينِ الاجتماعيَّةِ.. وثانيا تقويةُ الصناعةِ الإعلاميَّةِ العربيَّةِ بما يحقِّقُ التنافسُ واجتذاب المتلقين .. وقبلَ هذا وذاكَ تحصينُ المجتمعِ ضدَّ القادمِ دينيًّا واجتماعيًّا وهذا يتطلَّبُ جهودا كبيرةً ومنظَّمةً.
والسَّلامُ عليكم ورحمةُ الله وبركاتُهُ،،،

د. ساعد العرابي الحارثي

فرع جامعة الملك سعود بالقصيم

زر الذهاب إلى الأعلى