محاضرات عامة

التَّعليمُ بين التلقين وبناء الفكر

1410هـ -1989م:

بسم الله الرحمن الرحيم

قبـــلَ عشرين سنةً كنّا نبحثُ عمَّن يقرأُ ويكتبُ لسدِّ الفــراغِ في دائــرةٍ من دوائرِنا.. ليس المُهمُّ نوعَ المُؤهِّلِ العلميِّ ولكن يكفي ” فكُّ الحرفِ”.. نبذلُ الجهودَ ليتّجهَ شبابُنا إلى الجامعةِ.. لم نكن بعد تجاوزنَا ألفَ باءَ التنميةِ.. ولكن تغيَّر الواقعُ.. كثرتُ المدارسُ وتعدّدتِ الجامعاتُ وتنوّعتِ التخصُّصاتُ وتتالت أعدادُ المتعلّمين ولا تزال القافلةُ تسيرُ.. هذا التحوّلُ التنمويُّ الكبيرُ لم يصحبْهُ- بكلِّ أسفٍ- تغيير في المناهج وطرق التّدريسِ بشكلٍ يتناسبُ والمرحلةَ التي نعيشُها.. نحنُ لم نعدْ في حاجةٍ لمن يقرأُ ويكتبُ فقط.. نحنُ في حاجةٍ لمن يفكّرُ ويبدعُ.. في حاجةٍ إلى عقولٍ تستوعبُ وتفرزُ.. عقول قادرة على العطاءِ والإسهامِ.. ولن يتأتَّى هذا في ظلِّ المفهومِ التعليميِّ قبل عشرين سنةً.. إنّ التعليمَ يهدفُ في المقامِ الأوّلِ إلى بناءِ الفكرِ المبدعِ وهو في الوقتِ ذاتِه الأساسُ الذي بنَتْ عليه الشعوبُ المتقدِّمةُ طموحاتِها وحقّقت بموجبِهِ إنجازاتِها.. ومعَ ذلكَ فإنّ دولاً بلغتْ من التقدّمِ الماديِّ أقصاه -كالولاياتِ المتحدةِ الأمريكيّةِ والاتحادِ السوفيتَيِّ- لا تزالُ تعيدُ النظرَ في نَهْجِهَا التعليمي بينَ آونةٍ وأخرى.. وكانَ من أهمِّ قضايا حملةِ الرئيسِ الأمريكي السابقِ ريجانَ في انتخاباتِهِ قضيةُ التعليمِ وإصلاحهِ بدعوى أنّ التعليمَ في المدارسِ الأمريكيةِ لم يعدْ يلبَّي تحدياتِ العصرِ.. وفي كتابِ البيريسترويكا ” لميخائيل جورباتشوف” نجدُ اهتمامًا بالغاً بالتّعليمِ لتحقيقِ التوجُّهِ الطّموحِ الذي يهدفُ إليهِ.. إذْ يقولُ: ” إنّ إنجازاتِنا في التعليمِ معروفةٌ للجميعِ.. إنّها تثيرُ الإعجابَ عندَ مقارنتِها بأكثرِ البلدانِ تطوّراً.. ومع ذلك فإنّنا ننفّذُ إصلاحَ المدرسة تجاوباً مع المطالبِ الجديدةِ التي يفرضُها المجتمعُ الحديثُ على النّاس.. فقد أثّرتْ ظواهر الركودِ في مجتمعِنا على النظامِ التعليميِّ.. وكان في التعليمِ أيضا مظاهرُ الرضى عن النّفسِ في النتائج التي تمّ التوّصُّلُ إليها.. ممَّا أثّرَ بشكلٍ مباشرٍ على كلّ شيءٍ آخَرَ”.
ثم يتحدَّثُ عن التوجّهِ الإصلاحيّ الذي يجبُ أن يكونَ في التعليمِ على الرّغمِ ممّا وصلوا إليهِ من إنجازاتٍ علميةٍ كبيرةٍ فيقولُ: “والآنَ.. بعدَ مناقشةٍ على نطاقِ البلادِ، تبنيّنا برنامجاً لتحويلٍ جذريٍّ للمدارسِ الثانويةِ والعليا.. ويتمثّلُ الاتجاهُ الرئيسيِّ لجهوِدِنا في تدريبِ الشبابِ على العملِ في المستقبلِ بهدفِ تلبيةِ احتياجاتِ التقدّمِ العلميِ والتكنولوجيِّ والتخلّصِ من كلِّ ما هو ثانويُّ الأهمّيةِ.. كما يجري تحسينُ التّعليمِ الإنسانيِّ للشبابِ، الذي يهدفُ إلى تربيةٍ سليمةٍ وتحصيلِ مستوياتٍ ثقافيةٍ مناسبةٍ. وتولي الكلياتُ والمدارسُ الثانويةُ الاهتمامَ بالحثِّ على أساليبِ التّعليمِ والتربيةِ الخلّاقةِ وغرسِ المبادرِةِ في أسرِ المدارسِ الثانويةِ والعليا”.
أعرفُ أنّنا جميعا ندركُ أهمّيةَ التعليمِ.. ونُدركُ أيضا أنّ هذهِ الأهمّيةَ البالغةَ التي توليها القوى الكبرى للتعليمِ هي لا غيرها سرُّ تفوقِها.. بيدَ أنّ الإشكاليةَ في ساحةِ التعليمِ في عالمِنا العربيِّ تكمنُ في المفهومِ من جانبٍ وفي التطبيقِ من جانبٍ آخرَ.. لقد نشأ التعليمُ وأستمرَّ في مدارسِنا وحتّى في جامعاتِنا على قاعدةِ ما يمكنُ أن نُسمّيهِ بالتلقينِ بمناهجَ تعتمدُ على معلومةِ الاستظهارِ, فأصبحَ بناءُ الفكرِ وملكاتُ الإبداعِ لا تقعُ- إلاّ فيما ندرَ- ضمنَ مسئوليةِ المدارسِ.. ولذا نَجدُ متعلمينَ يحفَظُون ويتبارزونَ فيما يعرفونَ عن الأدباءِ والشعراءِ والمشاهيرِ وأسماءِ الدولِ والمخترعين وصفاتِ المخترعاتِ الخ…, وأصبحَ هذا المفهومُ السائدَ والمتسيّدَ في الساحةِ المعرفيةِ دون القدرةِ على الفرزِ والإنتاجِ الذاتيّ..
إنّ هناكَ علاقةً أساسيةً بين المناهجِ وضعفِ إعدادِ الطّالب فنجدُ أنّ معظمَ الموادِ التي تدرّسُ من المرحلةِ الابتدائيةِ إلى الثانويةِ تعتمدُ على الاستظهارِ والحفظِ دون إبرازٍ للطاقاتِ الإبداعيةِ أو تشجيعِ الملكاتِ العلميةِ.. وإذا كانَ العلمُ ينقسمُ إلى ثلاثِ مراحلَ.. المرحلةُ الأولى هي العلمُ الذي ثبتَ والمرحلةُ الثانيةُ العلمُ يكتشفُ بعضُ جوانبِه وما زال بعضُه غامضاً.. والمرحلةُ الثالثةُ العلمُ الذي لم يثبتْ بعد فإنّ عالَمَنا العربيَّ لا يزال في الدائرةِ الأولى الخاصةِ بتلقِّي ما أتيحَ لنا وليس كلُّ ما تحقّق لاعتباراتٍ تتعلّقُ بدورةِ المعرفةِ السريعةِ والتي لم يلحقُ بها الأساتذة فكيفَ يلحقُ بها الطلابُ.
وإذا استمرّ اعتمادُ التعليمِ عَلى التلقينِ واختباراتٍ تهتمُّ باستعادةِ المعلوماتِ فقط فإنَّ ذلك لا شكّ سيُعيقُ طموحاتِنا للحصولِ على مفكّرينَ مبدعينَ يحملونَ لواءَ التقّدمِ والتطوَّرِ ويأخذونَ بهذه الأمَّةِ إلى المكانةِ التي تليقُ بها في الصفوفِ الأولى.. ولعلَّ البدايةَ تكونُ من المدارسِ الابتدائيةِ إذ يقولُ علماءُ التربيـةِ: إنَّ (66%) من النموِّ العقليِّ يتمُّ في المرحلةِ الابتدائيةِ.. وهذا أمرُ يتطلّبُ في المقامِ الأوّلِ إعادةَ النُّظرَ في المناهجِ الدراسيةِ.. فإذا كانِ الاتجاهُ الحديثُ في التربيةِ هو تقديمُ المنهج على نهجِ المشكلاتِ التي يقومُ الطالبُ بحلِّها فإنَّ ما هو في مدارسِنا مختلفٌ تماماً ممّا يتطلّبُ وقـفـةً جادةًّ تعاودُ النَظرَ في بناءِ المنهجِ وعلى أسسِ تربطُ المدرسةَ بالحياةِ التي يعيشُها الطالبُ لمواءمةِ ما يدرسُهُ الطالبُ مع الممارساتِ اليوميةِ.
لا أحدَ يُنكرُ أنّ التعليمَ في بلاِدنا الطّاهرةِ شَهِدَ تطوراً كمّياً كبيراً وأنّ الاهتمامَ بالتعليمِ يبلغُ ذروتَه- ولذلك نحن هنا الليلةَ- إلا أنّنا مطالبون بإعادةِ النظرِ في الكيفِ بين آونةٍ وأخرى من أجلِ مواصلةِ تنميةِ وطنِنا وبناءِ مستقبلِنا.. فإذا كانتْ ظروفُ التنميةِ في بدايةِ مسيرتِنا فرضتْ التعاملَ مع التعليمِ بما يلبِّي احتياجاتِنا الملِّحة لمن يقومُ بمهماتِ المتطلباتِ الآنيةِ في ساحةِ العملِ الإداريةِ فإنّ الواقعَ قد اختلفَ وحققنا في هذا الجانبِ ما نحتاجُه.. صحيحٌ أنَّ هناك بعضَ التغييراتِ التي طرأتْ على مناهجِ وطرقِ التدريسِ عبرَ مسيرةِ التعليمِ لتلبيةِ حاجاتٍ مستجدةٍ.. ولكنَّها- بكلِّ أسفٍ- لمْ تكنْ محليةَ المنشأ.. ولا حتى محليةَ الشكلِ مما أضعفَ قيمتَها الحقيقيةَ لتكوينِ أساسٍ تعليميٍّ قويٍّ.. بل إنّ البعضَ يرى أنَّ هذهِ التغييراتِ المنقولةَ كانتْ سبباً في ضعفِ البنيةِ التعليميةِ لدينا.. قدْ يكونُ مع هؤلاءِ البعضِ الحقَّ خاصَّةً إذا قسنا مستوى خريـجِ اليوم بخريجِ الأمس من منظورِ الحفظِ وكميةِ المعلومةِ.. أمَّا البناء الفكري فما أشبه اليومَ بالأمسِ.
إنّ التعليمَ بالمفهومِ الشاملِ يجبُ أن يقومَ على أساسٍ محليٍّ ولا يمنعُ هذا مِنَ الاستعارةِ شريطةَ ” التهجينِ” بشكلٍ يناسبُ الواقعَ والحياةَ والطموحَ.. إنّ قضيةَ المناهجِ وطرقِ التدريسِ قضيةٌ مهمَّةٌ والكثيرُ من التربويين وغيرهم يعتبرونها من أهمِّ مشكلاتِ الإعاقةِ في بناءِ الإنسانِ المتمكّنِ.. فليس صعباً أن تبنيَ مصنعاً ولكنّ الصعبَ أن تبِنيَ فكراً.. والمدارسُ والجامعاتُ هي الميدانُ الحقيقي لبناءِ الفكرِ والعقلِ المنتجِ.
ويبدو واضحاً أنّ هناك خللاً في المناهجِ وطرقِ التدريسِ ابتداءً من المرحلةِ الابتدائيةِ إلى الجامعةِ.. وهو خللُ يمكنُ ويجبُ إصلاحهُ.. ولعلَّ الوقتَ مناسبٌ لإعادةِ النظرِ وتقويمِ المراحلِ السابقةِ والحاليةِ وإعادةِ صياغةِ النهجِ العلميِّ في بلادِنا تحقيقاً للطموحاتِ والتطلعاتِ التي تَبنِي عليها الدولةُ الاهتمامَ بالتعليمِ.. لا بدَّ من التوجهِ إلى الأساسِ البحثيِّ والعمليَّ والتطبيقيِّ والتجريبيِّ وعدم سجنِ عقولِ الطلابِ في إطارِ النظامِ التقليديِّ الذي يُعطي أعلَى الدرجاتِ لمن يقتربُ ممَّا قالَه الأستاذُ..
نحنُ نتطلّعُ إلى عقلياتٍ متميزةٍ تستطيعُ الابتكارَ والخلقَ والاختراعَ.. قادرةٍ على استيعابِ معطياتِ العصرِ.. دون ابتعادٍ عن قيمِها الدينيةِ وتقاليدِها العربيّةِ.. وأعذروني على الإطالةِ.

والسلام عليكم ورحمة اللهِ وبركاتهُ..

د. ساعد خضر العربي الحارثي
أستاذ الإعلام المشارك ورئيس قسم الإعلام
ومستشار المجلس الأعلى للإعلام

جائزة الأمير فهد بن سلطان بن عبدالعزيز- تبوك

زر الذهاب إلى الأعلى