محاضرات عامة

ملائمة تأهيل خريجي أقسام الإعلام في الجامعات السعوديَّة لمتطلبات العمل في القطاعين الحكومي والأهلي

1412هـ -1991م:

ورقة عمل مقدَّمة لندوة:

واقع العلاقات العامَّة في الأجهزة الحكوميَّة
وأساليب تطويرها

د. ساعد العرابي الحارثي

مقدِّمـــــة
منذ عرف العالم العربي التَّدريس الأكاديمي للإعلام في الثلاثينيات من هذا القرن، عندما بدأت الجامعة الأمريكيَّة بالقاهرة والسؤال يتردَّد حول مكانة هذا النَّوعِ من التَّعليم الجامعي وأهمِّيته.. وفيما إذا كانت الجامعات العربيَّة التي أخذت على عاتقها التَّدريس الأكاديمي للإعلام قد أصابت- في هذا المجال- أهدافها وحقَّقت غايتها..؟!
أسئلةٌ كثيرةٌ.. ونـدواتٌ.. ودراســاتٌ وأبحـاثٌ.. وحتَّى الآن لم تتوقف الحركة باتِّجاه محاكمة – أو لنقل بعبارةٍ أخرى- دراسة وتقويم واقع كلِّيات وأقسام الإعلام في العالم العربي.. وقد لا يكون في مثل هـذا التَّوجـه المستمرِّ نحو دراسة واقع التَّعليم الإعلامي الأكاديمي ما يثير الانتبـاه أو حتَّى يستثير السُّؤال.. بل إنَّه قد يعتبر ظاهرةً إيجابيةً تلقى الاحترام.. وتستحقُّ الترحيب.. إذ إنَّ تقويم الذَّات من أجل البحثِ عن الكمال ليس مهمّا فقط ولكنه يرقى إلى مرتبةِ الضّرورة.. ويصبح مطلبا أساسيّا عند أولئك الذين يعيشون العصر ويتفاعلون مع معطياتـه.. وينشدون القمم ويبحثون عن كمال العطاء.. أولئك الذين يؤمنون أنَّ الثَّبات وعدم الحركة مظهرا من مظاهر التَّخلف.. وأنَّ القناعـة بالقليل حكمٌ مسبقٌ على حركة التطور والتوقف.. ولكن عندما يتحوَّل الأمر إلى قضيَّة جدليَّة تكرِّر ذاتها بشكل دائري يصبح هناك مجال للاستغراب كما قد تصبح أداة الاستفهام ( لماذا) أكثر منطقيَّة ولا بدَّ من الإجابة.. ولا نودُّ أن ندخل هنا في تفاصيل كثيرةٍ، كما أنَّ البحث في عمق المسبِّبات قد يدخل بنا إلى متاهاتٍ تحتاج إلى جهودٍ أكثر وإلى دراساتٍ منهجيةٍ للوصول إلى جوهر الحقيقة.. ولذا قد يكون من المناسب في ظلِّ المعطيات المتوافرة الاكتفاء بوصف الملامح الخارجيَّة للظَّاهرة.. وهي إنْ لم تحدِّد مكامن الأسباب فإنَّها حتما سوف تشير إليها.
قد لا يكون من المبالغة إذا قلنا إنَّ التَّعليم الأكاديمي في مجال الإعلام حظي بالكثير من الدِّراسات والنَّدوات والجدل في السَّاحة العربيَّة أكثر من غيره من العلوم الإنسانيَّة.. فبينما واصلت العلوم الإنسانيَّة الأخرى استثمار طاقاتها بالدِّراسات والمؤتمرات والنَّدوات للإسهام في تطوير مجتمعاتها وإثــراء ساحتها بالمعــارف والنَّظريـات الجديدة ظلَّ الإعلام الأكاديمي يدرس ذاته ويدافع عنها.. وأعتقد أنَّ طبيعة الإعلام هي المسئولة – أوَّلا – عن هذا الجدل الدائر حول جدوى الدِّراسات الإعلامية، وما يثيره ذلك من أسئلةٍ وانتقاداتٍ.. فالإعلام هو ما يمكن تسميته بـ ( العلم المكشوف) فطلابه لا بدَّ أن يعرضوا عطاءاتهم على الملأ.. ولا بــدَّ أن يكشفوا ذواتهم بكلِّ ما تعلموه للنَّاس.. وهنا يبدأ الحديث عنهم بالإيجاب أو السلب.. وهذا يعني الحديث عن عملهم وعن الجهات التي علَّمتهم.. بينما يقتصر عمـل خريجي العلــوم الإنسانيـَّـة الأخرى على فئةٍ من الَّناس وفي نطاق محدود وبالتَّالي لا تتعرَّض هذه العلوم إلى ما يتعرَّض له الإعلام.
ثانيا: يأتي المفهوم العربي للإعلام.. وهو في جوهره – بكلِّ أسفٍ- لم يصل بعد إلى حقيقة ماهيَّة الرسالة الإعلاميَّة وكيف يجب أن تكون وإنْ كنَّا نشهد بعض التحسن على هذا المفهوم في السَّنوات الأخيرة، لعلَّه يتكامل مع مرور الزَّمن وذلك بفعل ما تشهده المنطقة من تطوّرٍ ثقافيٍّ واجتماعيٍّ وفكريٍّ واقتصاديٍّ.
ثالثا: العرف الإعلامي وأساس نشأة الإعلام العربي.. فقد نشأ هذا الإعــــلام على أيـــدٍ بعضها لا يعرف التَّعليــم الجامعــي ومعظمـها أن لم يكن جميعها لم تدرس الإعلام كتخصُّص.. وقد أجادت تلك الأيدي في حينها وكان لها ريادة السَّاحة الإعلاميَّة إلَّا أنَّ العصر قد اختلف.. ولذا يكون السُّؤال: إذا كان قد نجح في الإعلام من لم يدرسه كتخصُّصٍ فما هي أهمِّية الدِّراسات الإعلاميَّة..؟ طبعا أصحاب هذا التساؤل لم يأخذوا في الاعتبــار البُعد الزَّمني ولا الظّروف السِّياسيَّة التي نشأ فيها الإعلام العربي ولا لماذا أصلا نشأ هذا الإعلام.. ولأيَّة مهمَّة وما هي جماهيره.. وكيف كانت رسالته.. وبـأيِّ مفهومٍ.؟ ولم يأخذوا في الاعتبار أنَّ الماضي ليس كالحاضر.. وأنَّ ما كان مثمرا نتيجــة الاجتهاد الذاتي لن يعطي الثَّمرة نفسها اليـــوم.. وأنَّنا نعيـش عصر التخصُّص.. وأنَّ الشّمولية في العلوم لم تُعد مناسبةً لهذا العصر.. عوامل كثيرة أغفلها أصحاب السُّؤال عن نجاح إعــلام الأمس.. ولن ندخل في التَّفاصيل ولكن ما يعنينا هنا هو أنَّ التَّدريس الأكاديمي للإعلام في السَّاحة العربيـَّـة يقع بن مطرقـة المؤسَّسات الإعلاميَّة وسندان الجامعات التي أخذت على عاتقها التَّدريس الإعلامي.. وهذا ما سوف تعرضه هذه الورقة بإيجاز.

مفهوم التَّعليم الجامعي:
ليس هناك مفهومٌ واحدٌ واضحٌ وخاصَّة فيما يسمَّى بالعالم النامي حول التعليم الجامعي فيما يتعلَّق بالعلوم الإنسانيَّة.. فهناك من يقول بأنَّ تزويد الطالب بالمهارات اللازمة للعمل هي من مسئوليَّة ومهمَّة الجامعة بينما يقصر آخرون مهمَّة الجامعة على التَّثقيف.. وبين هذا وذاك يدور جدلٌ كثيرٌ.. وهذا أمرٌ ليس بالجديد.. فقد مرَّت به دول المقدِّمة ولكنَّها فيما أعتقد قد حسمت هذا الأمر وانتهت إلى مفهومٍ واضحٍ ومحدَّدٍ.. وقد بدأ الجدل حول مهمَّة الجامعة وعلاقة ذلك باحتياجات المجتمع منذ بداية الستينيات عندما بدأت الحكومات الغربيَّة تحاول ربط الدِّراسات الجامعيَّة باحتياجات المجتمع من كوادر وبصرف النَّظر عن واقع التَّعليم الجامعي في الغرب فإنَّني أومن بأنَّ لكلِّ مجتمعٍ من المجتمعات ظروفه واحتياجاته الخاصَّة به.. وبدون أخذ هذه الخصوصيَّة أساسا للتَّخطيط والتَّنسيــق لكلِّ ما يعني المجتمع وسبــل تطوّره فإنَّ الكثير من الجهـود والأفعال سوف تخطيء أهدافها.. ويأتي في مقدِّمة ذلك التَّعليم.. إذ لا بدَّ من الاسترشاد بأبعاد الظّروف والاحتياجات عند التَّخطيط للتَّعليم الجامعي.. وقد لا يعنينا في المملكة – مثلا- أنَّ بعض الجامعات المشهورة في العالم تعتبر أنَّ إكساب المهارات هو من مهمَّة المعاهد التَّدريبية في حين أنَّ الجامعات هي في الأساس لبناء الفكر والتَّثقيف وصقل القدرات على البحث والاستنباط.. فإذا أخذنا في الاعتبار حاجة الدّولة النَّامية إلى قدراتٍ ماهرةٍ تستطيع الإسهام بتمكِّن في مجال تخصُّصها فإنَّ من مسئوليـة الجامعة أن تكيّف مفهوما ليكون منسجما مع هذه الحاجة.. وهذا يعني اضطلاعها بمهمَّتين في آنٍ واحدٍ.. هما مهمَّة التَّثقيف وبناء الفكر ومهمَّة إكساب المهارة عن طريق التَّدريب.. وإلا أخلَّت الجامعة بمسئوليتها تجاه التَّنمية الشَّاملة للمجتمع.. ويبدو أنَّ مشكلة الجامعات في عالمنا العربي هي أنَّها قامت على أساسٍ من الاستعارة والمحاكاة.. وبدأ ذلك من جمهوريَّة مصر العربيَّة التي وجدت في أوروبا إبَّان نشأة الجامعات لديها مصدرا رئيسيا لحركتها التعليميَّة وهو الأمر الذي انتقل بالتَّالي إلى بقيَّة دول العالم العربي.. وهذا يؤكِّد أنَّ التعليم الجامعي أتى إلى السَّاحة العربيَّة من بيئةٍ أخرى مختلفة لها ظروفها واحتياجاتها التي قد لا تتناسب مع ظروفنا واحتياجاتنا.. واستمرَّ مبدأ الاستعارة والمحاكاة حتَّى يومنا هذا إلا أنَّ الكثير من الدّول العربيَّة أصبح ينقل مباشرةً من المصادر الأفريقيَّة والأوروبيَّة.. ولا أعتقد أنَّ جامعاتنا في المملكة بعيدةٌ عن مبدأ الاستعارة.. بل إنَّنا – في بعض الأحيان- نقوم بالنَّقل الكامل للمفهوم والمنهج.. خاصَّة بعد أن عـاد الكثير من الذين ابتعثوا للدِّراسة في الغرب.. فالبعض من هؤلاء عاد ومعه فلسفة ومنهج التَّعليم في الغرب.. وبدأ التَّطبيق هنا دون محاولة للتَّفريق بين البيئتين واحتياجاتهما.. وندرك جميعا أنَّ التَّعليم الجامعي الغربي قد يكون متكاملا ويحتلُّ القمَّة فيما يتعلق بتلبية احتياجات البيئة التي هو فيها ولكن يجب الاعتراف بأنَّه ليس بالضّرورة أن يكون كلُّه صالحا لنا أو ملبيا لحاجتنا.

التَّأهيل الإعلامي في الجامعات السعوديَّة
نشأ الإعلام السعودي من صحافةٍ وإذاعةٍ وتلفزيونٍ معتمدا اعتمادا كبيرا على المتعاقدين من غير السعوديين وبعض السعوديين الموهوبين والراغبين المجتهدين دون أن يكونوا من المتخصِّصين أو حتَّى الدراسيين للإعلام.. إذ لم تعرف المملكة الإعلام كتخصُّصٍ أكاديميٍّ إلا عندما أنشأت جامعة الملك سعود ( جامعة الرياض سابقا) أوَّل قسم للتَّدريس الأكاديمي للإعلام في عام 1972م.. وكان ذلك تلبيةً لحاجةٍ ملحةٍ استشعرها المسئولون عن الإعلام.. وبدأ قسم الإعلام في جامعة الملك سعود في تدريس الإعلام من خلال ثلاث شعبٍ رئيسيَّة هي ( الصحافة، والإذاعة، والتلفزيون، والعلاقات العامة) معتمدا في منهجه وطرق تدريسه على النَّمط المصري.. واستمرَّ ذلك المنهــج الذي يعتمد التَّلقين أساس العملية التعليميَّة حتَّى هذا العام 1412هـ حيث تمَّ البدء في تطبيق خطَّةٍ جديدةٍ تعتمد التَّدريب ثنائيا أساسيا في التَّدريس الإعلامي هذا من حيث طرق التدريس، أمَّا من حيث توفر المادَّة العلميَّة ففي الواقع أنَّ أشدَّ ما تعاني منه أقسام الإعلام في المملكة ندرة الكتاب والمرجع الإعلامي المؤلَّف محلِّيا وهو الأمر الذي تعاني منه المكتبة العربية على وجه العموم.. وقد يكون ذلك بحكم حداثة هذا العلم نسبيا وكذلك قلَّة المتخصِّصين فيه بالعالم العربي.. مما أدَّى إلى الاعتماد- إلى – حدٍّ كبيرٍ- على الترجمة.. وإذا أخذنا في الاعتبار أنَّ الكتب المترجمة تمَّ تأليفها في بيئاتٍ مختلفةٍ ولأغراضٍ مختلفةٍ فإنَّ الكثير منها قد لا يناسب فعلا ما نودُّ تحقيقه من التَّدريس الإعلامي.. ومن جانبٍ آخر فإنَّ التَّدريب العملي لإكساب مهارة جديدة لم يحظ هو الآخر بأهمِّيـة كبيرة وكمثالٍ على ذلك قسم الإعلام في جامعة الملك سعود في بداياته.. فقد تخرَّج من هذا القسم الدُّفعة الأولى ثمَّ الدُّفعة الثَّانية ولم يكن فيه آنذاك أكثر من ثلاثة أعضاء هيئة تدريس كلّهم من المتعاقدين وليس فيهم متخصِّصٌ واحدٌ في الصحافة “1”.
ولذا يمكن التَّأكيد بأنَّ التَّلقين واعتماد التَّنظير والتَّثقيف كانـوا هم أساس التَّدريس الإعلامي في أقسام الإعلام بالمملكة.. وهذا ممَّا يبتعد عن الأهداف التي حدَّدتها اليونسكو للتَّأهيل الإعلامي.. وهي الأهداف التي تتمثَّل في:
1. تعريف الدَّارس بالمصطلحات الإعلامية والمعدِّات المستخدمة.
2. تنمية المهارات الأساسيــَّة في صناعــة الإعلام مثل القدرة على استعمال اللغــة، والمهارات اليدوية والاستعداد الميكانيكي في التَّعامل مع الأجهزة، والموهبة الفنية والخيال في استخدام آلات الإنتاج.
3. تنمية المهارات الإعلاميَّة المتخصِّصة أو ما تسمَّى بالوظيفية مثل مهارات الإعداد أو الكتابة.. ومهارات الإنتاج، والمهارات الهندسيَّة التي تعنى بتركيب المعدَّات وصيانتها وإصلاحها.
4. رفع مستوى المهارات الموجودة في ميدانٍ مختارٍ وتشمل عملية تجديد المعلومات والتَّعريف بالآلات الجديدة والأساليب المستخدمة.
5. تنمية الوعي الاجتماعي والاقتصادي.
6. تنمية جوانب محدَّدة في التَّطبيق مثل الإعلام الحكومي، الإعلانات، العلاقات العامَّة، وإدارة المؤسَّسات الإعلاميَّة أو أنواع معيَّنة في جوانب التَّنمية “2”.

التدريـــب
تقوم العمليَّة التعليميَّة الأكاديميَّة في حقل الإعلام على ثلاثة أبعادٍ رئيسيةٍ هي: البعد النظري.. والبعد الثقافي.. والبعد العملي.. وتشير الدلائـل إلى أنَّ البعدين النَّظري والثَّقافي قد أعطيا الكثير من الاهتمام إنْ لم يكن هما وحدهما أساس التدريس الأكاديمي في أقسام الإعلام في جامعاتنا فإنَّ البعد العملي لا يزال – في حقيقة الأمر- ينتظر حقَّه من الاهتمام.. ولعلَّ ضعف الاهتمام بالجانب العملي يعود من ناحيــةٍ إلى مفهوم التعليم الأكاديمي في الجامعات – كما أشرت إليه سلفا- ومن ناحيةٍ أخرى إلى أنَّ تأهيل أعضاء هيئة التَّدريس في هذه الأقسام هو تأهيلٌ نظريٌّ ممَّا لا يمكنهم إلى مباشرة التَّدريب بأنفسهم بالإضافة إلى ما يتطلَّبه ذلك من جهدٍ وعناءٍ وقد يحول دون الوفاء به كثرة الطلاب والتزام أعضاء هيئـة التَّدريس بالكثير من الواجبات الإداريَّة والاجتماعيَّة.. إلَّا أنَّه يمكن التَّغلب على هذه الظّروف بتوفير قدراتٍ بشريةٍ متخصِّصــةٍ في التدريب يسند إليهم التَّدريب العملي للطّلاب مع أعضاء هيئة التَّدريس الذين يقومون بتدريس الجانب النَّظري.. وهناك ثلاث صورٍ للتَّدريب العملي هي:
(1) التَّمرينات العمليَّة التي تتمثَّل في الجانــب التَّطبيقي لبعضِ ما يدرســه الطلاب من مــواد تخصُّصيـَّة.
(2) التدريب العملي في الأقسام وهو التدريب في معامل وصحف الأقسام. (3) التدريب العملي في المؤسسات الإعلامية “3”.

وعند النَّظر إلى برامج أقسام الإعلام في جامعات المملكة نجد أنَّ التَّدريب العملي لا يمثِّل نسبةً كبيرةً مقارنةً بالجانب النَّظري وذلك على الرّغم من التَّأكيد بأنَّ التَّدريب في حقل الإعـلام ليس مهمَّا فقط ولكنَّه – في الحقيقــة- يقف مع الجانب النظري بالتَّساوي في كمال العمليَّة التعليميَّة.. وإذا نظرنا إلى الجدول التالي تتَّضح الحقيقة بكامل أبعادها.

ويبيّن الجدول السابق أنَّ الثَّقافة العامَّة غير التخصُّصيَّة تحظى بالأهمِّية الأكبر يليها الثَّقافة الإعلاميَّة التخصُّصيَّة، أما بالنّسبة للتَّدريب العملي فإنَّه لا يحظى إلا بالنَّزر اليسير جدا.. إذ إنَّ نسبته تتراوح ما بين (12%- 15%) وهذه نسبةٌ ضئيلةٌ في حقلٍ يعتمد على المهارة ممَّا يعني أنَّ أقسام الإعلام في واقعها الحالي لا تخرج إعلاميَّا مهنيَّا ولكنَّها بدلا من ذلك تزوّد المؤسَّسات الإعلاميَّة بإعلاميٍّ مثقفٍ.. وهو الأمر الذي لم يلقَ رضا هذه المؤسَّسات ممَّا جعل أصابع الاتِّهام بالتَّقصير تتَّجه وبشكلٍ مستمرٍّ نحو أقسام الإعلام.. فالصَّحافة مثلا والإذاعة والتلِّفزيون وكذا إدارات العلاقات العامَّة تنتظر من خريجي أقسام الإعلام الإجادة التَّامَّة في مجال تخصُّصهم.. وعندما تكون الممارسة بخلاف التوقُّع يكون الاتهام والنقد.. وقد نجد للمتَّهمين وكذا المنتقدين بعض العذر فيما يذهبون إليه ولكن هــؤلاء لم يأخــذوا في الاعتبار المفهوم للتَّعليــم الأكاديمي الإعلامي في الجامعات، كما أغفلــوا فيما يبدو حداثة نشأة التَّدريس الإعلامي بالإضافة إلى الظّروف الإعلاميَّة ذاتها.. فإذا كان التَّدريس الإعلامي – كما سبق أن ألمحنا إلى ذلك آنفا- يعتمد في المقام الأوَّل على النَّظريات والمنهج الغربي فإنَّ الواقع الإعلامي من حيث الممارسة في العالم العربي يختلف تماما.. وهو الاختلاف الذي ليس هنا مجال تقييمه أو تحديد مسبباته ولكن هذا الاختلاف أدَّى إلى إدخال المتخرِّج من أقسام الإعلام في دوَّامة الصَّراع بين ما تعلَّمه وبين ما هو ممارسٌ فعلا.. ولذلك يضطر إمَّا إلى الاندماج والتكيُّف مع الواقع وبالتَّالي يتساوى عطاؤه مع غيره.. من غير المتخصِّصين إنْ لم يكن أقلَّ بحكم قصر التجربة أو محاولة البحث عن عملٍ في مكانٍ آخر غير السَّاحة الإعلاميَّة.. وهذا لا يعني أنَّ الأقسام الإعلاميَّة لا تتحمَّل مسئوليَّةً في محدوديـَّة قدرات طلابها.. فهي لا شكَّ معنيَّةٌ بالقصور في الدرجة الأولى على الأقلِّ فيما يتعلَّق بتصحيح المفهوم للتَّدريس الأكاديمي الإعلامي وفيما يخصُّ التَّدريب العملي.. وهـذان عنصران مهمَّان يمكن لأقسام الإعلام التَّعامل معها بنجاحٍ.. ولكن من جانبٍ آخر فإنَّ جهات التَّوظيف سواءً قطاعا عامَّا أو خاصَّا تتحمَّل هي الأخرى مسئوليَّةً في تنمية مهارات المتخرجين من أقسام الإعلام الملتحقين بالتوظيف فيها.. وذلك عن طريق التَّدريب المسبق لممارســــة العمل.. فإذا افترضنا أنَّ خريج الإعلام يملك من التَّأهيل النَّظري والثَّقافة التخصُّصيَّة ما يفوق نظرائه من غير الدَّراسيين للإعلام فإنَّ ما ينقصه هو التَّدريب لاكتساب المهارة وهذا أمرٌ تقوم به جهات التوظيف إذا أرادت الحصول على عطاءٍ متكاملٍ يعتمد العلم أساسا للعمل بعيدا عن الاجتهاد وتجربة الخطأ والصواب.

ملائمة تأهيل خريجي أقسام الإعلام للمتطلَّبات العمليَّة
على الرّغم من كلِّ الظّروف التي نشأت فيها أقسام الإعـــلام في الجامعات السُّعوديـَّـة والتي أشرنـــا إلى معظمها فيما سبــــق فإنَّه لا يمكن التهاون فيما قدَّمته من قدراتٍ بشريةٍ إلى مؤسَّساتنا الإعلاميَّة من صحافةٍ وإذاعةٍ وتلفزيونٍ وإلى القطاعات الحكوميَّة الأخرى وكذلك إلى القطاع الخاصِّ.. وقد وصل بعض خريجي هذه الأقسام إلى مراكز قياديَّة في وسائلنا الإعلاميَّة.. واستطاعوا فعلا أن يضيفوا الكثير من الإسهامات في ساحة العطاء الإعلامي.. ولكن إذا تجرَّدنا من العاطفة وتعاملنا مع الحقِّ والحقيقة فإنَّ ما كان منتظرا كان أكبر بكثير ممَّا قدَّمته أقسام الإعلام حتَّى الآن.. وكان بالإمكان فعلا إعداد طاقاتٍ بشريَّةٍ أكثر تأهيلا وأكثر مهــارةً وبالتَّالي أكثر عطاءً إلا أنَّ هناك الكثير من الظُروف التي تضافرت للحدِّ من تكامل مهمَّات هذه الأقسام ويمكن إيجازها كالتَّالي:
1. المفهوم الأكاديمي لتدريس الإعلام في الجامعات السعوديَّة.
2. مساواة أقسام الإعلام بغيرها من أقسام العلوم الإنسانيَّة الأخرى فيما يتعلَّق بسياسات القبول.
3. الاعتماد على الكتب والمؤلَّفات الأجنبيَّة المترجمة.
4. ضعف التَّدريب والاعتماد على التَّنظير والتَّثقيف.
5. مساواة خرِّيج الإعلام بغيره في التَّوظيف.
6. المفهوم للعمل الإعلامي في المؤسَّسات الإعلاميَّة.
هذه من أهمِّ العوامــل التي هي في رأيي من أهمِّ ما يعيــق أقسام الإعــلام دون تحقيق أهدافها بشكلٍ كاملٍ.. بيد أنَّ ذلك لا يعني أنَّ تأهيل خريجي أقسام الإعلام لا يمكَّنهم من تلبية متطلَّبات العمل.. فهم لا شكَّ من الناحية النَّظريَّة والتَّثقيفيَّة التخصُّصيَّة يمتلكون القدرة على العطاء بنسبٍ متفاوتةٍ.

مقترحــاتٌ
بعد مرور حوالي عشرين عاما على إنشاء أوَّل قسم إعلامٍ في المملكة وعودة بعض المبتعثين من السعوديين المتخصِّصين بعد حصولهم على شهادات الدكتوراه في مجال الإعلام من الجامعات الغربيَّة فإنَّ الوقت مناسب لإعادة النَّظر في واقع أقسام الإعلام في جامعاتنا.. ومحاولة تصحيح مسارها بالتَّنسيق مع الجهات المستفيدة والمعنيَّة بالإعلام في المملكة:

أوَّلا: تصحيح المفهوم السَّائــد للتَّدريس الإعلامي في الجامعــات.. فإذا كان بعض الجامعات مقتنعــةٌ بـأنَّ ليس من مسئوليتها فيما يتعلَّق بالعلوم الإنسانية إكساب الطّلَّاب مهاراتٍ جديدةً عن طريق التَّدريب بقدر مسئوليتها من النَّاحية التَّثقيفيَّة فإنَّ الإعلام مهارةٌ قبل كلِّ شيءٍ، ولذا فمن الأجدى أن يكون مفهوم (المهارة) متساويا مع مفهوم التَّثقيف.. وبصرف النَّظر عن النَّماذج الجاهزة فيما يتعلَّق بالتعليم الجامعي.. فقد يكون من الأفضل أن يكون لنا أنموذجا تعليميا مختلفا لتحقيق أهدافنا.

ثانيا: تحديد شروطٍ لا بدَّ من توافرها في طالب الإعلام ليس بالضّرورة متوافرة لمن يتقدَّم للدِّراسة في أقسام العلوم الإنسانيَّة الأخرى.. إنَّ الإعلام كتخصُّصٍ ( أكاديميٍّ) أخذ مكانةً بين العلوم الإنسانيَّة الأخرى في جامعاتنا بالتَّساوي دون إعطائه ما يستحقُّ من أهمِّيةٍ متفرِّدةٍ.. والقصد هنا ليس التفاضل بين العلوم ولكن اختلاف الخصائص والطبيعة تجعل لكلِّ علمٍ سمةً مختلفةً.. فإذا كان – مع الاحترام والتقدير- خرِّيج التَّاريخ أو علم الاجتماع أو الجغرافيا مثلا يقتصر عطاؤه في إطارٍ محدَّدٍ لا يتطلَّب القيادة الاجتماعيَّة ولا التعامل مع الجمهور العامِّ على مختلف طبقاتــه.. وليس من الضّرورة أن يكون ذا ملكةٍ تؤهله للإقناع والتَّأثير فإنَّ رجل الإعلام هو قائد رأي ومن صانعي الفكر ليس هناك حدودٌ زمنيَّةٌ أو مكانيةٌ لعمله.. ومسئوليته الاجتماعيَّة كبيرة.. لهذا يجب أن يكون لطالب الإعلام صفاتٌ وخصائص تؤهله لهذه المكانة.. وهذا يعني وجوب توافر شروطٍ خاصَّةٍ عند قبول الطالب لدراسة الإعلام بصرف النَّظر عن شروط القبول في أقسام العلوم الإنسانيَّة الأخرى.

ثالثا: اعتماد خطَّةٍ واضحةٍ لتوفير الكتاب الإعلامي المحلي للطالب قد يكون من المناسب أن تجتمع أقسام الإعلام في المملكة لتحديد إطار هذه الخطَّة وتقسيم المهمَّات من أجل إعداد الكتب الإعلاميَّة المناسبة لإعداد الطالب بما يحقِّق حاجتنا ويتناسب مع ظروفنا ومتطلَّباتنا.

رابعا: التَّدريب هو الجانب الثَّاني للعمليَّة التعليميـَّة الأكاديميَّة في الإعلام.. ولا بدَّ من إدراك هذه الحقيقة والتعامل معها على أساسٍ من الجدِّية.. فالإعلام هو في جوهره مهـارة لا بدَّ من إكسابها للمتعلِّم الذي يملك الموهبة والاستعداد فإذا كان التَّنظير والتَّثقيف التَّخصُّصي قاعدة التَّدريس الإعلامي فإنَّ التَّدريب قمَّته.. وهذا يتطلَّب خطَّةً متكاملةً للتَّدريب في صوره الثلاث – التَّدريب المصاحب للموادِّ الدِّراسيَّة والتَّدريب الدَّاخلي في الأقسام الإعلاميَّة والتَّدريب في المؤسَّسات الإعلاميَّة-.

خامسا: وضع كادرٍ وظيفيٍّ خاصٍّ بالإعلاميين مثلهم مثل الأطباء وذلك أنَّ التَّعامل مع الكلمة ووسائل مخاطبة الجماهير بشكلٍ عامٍّ مسئوليَّةٌ قياديَّةٌ تتجاوز بكثيرٍ مسئوليَّة أولئك الذين يتخاطبون أو يتعاملون مع فئةٍ محدَّدةٍ من الناس.. فمن مسئولياتهم صناعة الرأي وبلورة المواقف وتحديد الاتِّجاهات وتعزيز سبل التَّنمية ونشر الوعي والمعرفة وهذه أمورٌ تستوجب قدراتٍ عامَّةً وجهودا خاصَّةً وبالتَّالي لا بدَّ من تقديرها بما يتناسب وحجم المسئوليَّة.

سادسا: التزام المؤسَّسات الإعلاميَّة والجهات المستفيدة من خرِّيجي أقسام الإعلام سواء في القطاع الخاصِّ أو العامِّ بمهمَّة التَّدريب قبل العمل.. وذلك لصقل مهارة الطَّالب خاصَّةٍ إذا كان لم يتلقَ تدريبا كافيا أثناء دراسته.. والتَّدريب السابق للعمل من الجهات المستفيدة من المتخرِّج حقيقـةٌ تتعامل معها جميع المؤسَّسات في عالم المقدِّمة حتَّى ولو كان الطَّالب حصل على قدرٍ كافٍ من التَّدريب قبل طلبه التَّوظيف.. واعتقد أنَّنا أحقُّ بالتعامل مع هذه الحقيقة.

سابعا: تصحيح مفهوم المؤسَّسات الإعلاميَّة للعمل الإعلامي باعتبــار التخصُّص من أساسات نجاح العمل.. إذ إنَّ هناك اعتقادا في هذه المؤسَّسات أنَّ الدِّراسة المتخصِّصة ليست شرطا أساسيَّا للعمل الإعلامي وإنْ كانوا لا ينكرون أهمِّيتها ولعلَّ النَّشأة الأولى لوسائل الإعلام وبعض التَّجارب مع بعض خرِّيجي أقسام الإعلام كانت من الأسباب الرَّئيسيَّة في تكوين هذا المفهوم.

هذه بعض المقترحات التي يمكن أن تسهم في إعدادٍ متكاملٍ لمتخصِّصٍ في حقل الإعلام وبالتَّالي مضاعفة ملائمة خريجي أقسام الإعلام في جامعات المملكة للعمل.
وإذا كان هناك من توصيــةٍ أخرى فإنَّني اعتقد بــأنَّ توحيد أقسام الإعلام في جامعات المملكة في كلِّيةٍ واحدةٍ متكاملةٍ قد يسهم في حلِّ الكثير من العقبات ويضمن بالتَّالي تكامل العمليَّة التَّعليميَّة الأكاديميَّة في مجال الإعلام.. والسَّلام.

د. ساعد العرابي الحارثي

الهوامش
1. د. أحمد حسين الصاوي:
التدريس الإعلامي في الدّول العربيَّة
مطابع جامعة الرِّياض- الرِّياض 1398هـ

2. منظَّمة اليونسكو:
التَّقرير عن التَّدريب الإعلامي
ترجمة جامعة الرِّياض- الرِّياض 1398هـ

3. د. احمد حسين الصاوي:
مرجع سابق ص 180- 184

4. فلسفة التَّأهيل الإعلامي وأهدافه في جامعات المملكة العربيَّة السعوديَّة ورقة عمل مقدَّمة من قسم الإعلام بالمعهد العالي للدعوة الإسلاميَّة للملتقى العلمي الأوَّل لرؤساء أقسام الإعلام بالجامعات السعوديَّة المنعقد في جامعة الإمام محمَّد بن سعود الإسلاميَّة خلال الفترة 10-11 شعبان 1410هـ- الرِّياض ص 12.

معهد الإدارة العامة

زر الذهاب إلى الأعلى