نحن بين اليوم وغــد
1408هـ -1987م:
سُنّة المجتمعات التطور، هكذا يقول علماء الاجتماع، ويؤكدون: لا يمكن للشخص أن يقفز في نفس النهر مرتين، لأنه يتغير وكذلك النهر.. خلايا الإنسان وأفكاره ومشاعره ورؤاه ودرجة إيمانه تتعرض جميعها للتغيير باستمرار، وأيضا النهر يتغير ماؤه وتربته وكائناته والعناصر التي يحملها, والتطور- بالطبع- حقيقة أزلية، فالحياة بكائناتها وجماداتها لا تعرف الثبات، فالمناخ يتغير وكذلك البيئة والحياة الفطرية والاجتماعية والعمرانية والاقتصادية والسياسة وغيرها.
إن فكر المجتمع هو الذي يولد التطور، وترتبط درجات التطور بحجم الحركة، فكلما كانت المجتمعات أكثر نشاطا وحركة كلما كانت أكثر قدرة وقابلية للتطور، والأمم الأوفر نشاطا هي الأسرع خطى في طريق صناعة التقدم، وبالطبع فإن أقلها نشاطا أبطأها نموا.. وتختلف درجات التطور حسب الخصائص الاجتماعية والسمات الفكرية لكل شعب.. والشعوب تفصل بينها الأفكار وخصوبة تربتها لا الحدود والمسافات الجغرافية.. وخصوبة التربة تعني “إنبات” الأفكار وهي أعلى كثافة، وأشد خضرة، وأكثر رواء، وما أن تنبت الفكرة في بيئة سليمة حتى تعطي ثمارا ناضجة مشبعة بكل العناصر الغذائية.
وفي الناحية المعاكسة يقف الخمول شاهرا سيفه في وجه التقدم، فهو عدو النهضة، وقادر على تعطيل أعظم وأرقى المواهب الفطرية.. فالخمول يضعف حركة العقل ويشل نشاطه، ويجعله أسيرا للاسترخاء والجمود، والخمول يُعد من أسرع الطرق وأقصرها إلى الضحالة، وبالتالي فإن الفكر كلما كان ضحلا، كلما كان المجتمع معتلا وسقيما، والاعتلال والإبداع ضدان.. فالسقيم لا يعطي ولا يبدع، ومن ثم فإن كثرة الأسقام والأمراض تولد العقم.
ولعل عصرنــا هذا هو عصر العلوم والمعارف، عصر التأمل والتفكير والبحث والاستقصاء والاستنباط.. وتقتضي المعرفـــة ديناميكيــة في الحركة والتفكير، وأمة لا تفكر هي أمة جامدة، تجلس القرفصاء على رصيف المشاهدة وتتابع سيناريو التغيرات المذهلة في مجال العلــوم والتقنيــة والسياســة والاجتماع والاقتصــاد وما إلى ذلك.
إنها تتابـــع فقط حلقات مسلسل التطــور دون أي محاولـة لأعمال الفكر أو الدراسة أو النقد أو الاستنباط.. إنها تبحث عن المتعة الآنية لا المنفعة الدائمة والآجلة، ولسنا هنا في مجال الاستشهاد بالتاريخ فيما آلت إليه دول قنعت بالاعتماد والاتكال على غيرها، ورضيت بالعادة والعرف قوانين تحكم مساراتها.. دول ألغت نفسها في صناعة الفعل، وأوقفت حركتها على حدود ردة الفعل.. إنها دول كبلّت رؤاهــا بوثـاق الحاضر، واقتصرت جهودها على ما يقتضيه الواقع بصرف النظر عن المستقبل.. وبعكس هذه، فتلك الدول التي تفاعلت مع حركة الزمن، وأدركت مسئولياتها، وتعاملت مع العقل، وتعايشت مع معطيات الحاضر، فهي دول اتجهت بتؤدة وثبات نحو المقدمة، نحو القمة.. وهذا التصنيف يعد من البديهيات التي لا تحتاج إلى عبقرية، فالدول قسمان.. قسم يعيش في سلامة واستقلال وهناء، ويثري الحياة- كل الحياة- بأفعاله، والآخر منها يمسى على بارود ويصبح على ألسنة اللهب.. دول يأكل بعضها بعضا، وينخر الضعف في جسدها، ولا تملك إلا أن تحني هامتها للصافعين.. ترضى بالمذلة، وتقتات الفتات، ولا غرو إذن إذا بقيت في ذيل الركب تتلذذ بحالة الخدر التي فرضتها على نفسها.
وتشير بعض الدراسات إلى أن مثل هذه الدول- التي تترنح حتى في خطوها البطيء- تحيى بعقلها وفكرها خارج مظلة العصر، وتحارب الواقع بفكر الماضي.. وتحكم العادة وتحتكم إلى العرف.. وبذلك تقر على نفسها التآكل وأن بدت معافاة ومليئة بالصحة.
وعلى العموم فإن اليوم ليس هو الأمس.. وغدا لن يكون مثل اليوم.. ونحن في واقعنا الحالي نختلف عن ما كنا عليه في ماضينا القريب، وأسوق ذلك لمن يتتبع خطى هذه البلاد الكريمة، ويتأمل مليا في مسيرتها، أنه بالتأكد سيعي تماما أنها تفاعلت وتتفاعل مع حركة الزمن.. بل استطاعت – بحكمة واقتدار – أن تعايش الظروف وتقاومها برغم قسوتها ومرارتها، فكانت المحصلة أشبه بالمعجزة، إذ انتشلت نفسها- بسرعة قياسية- من الفقر إلى الغنى، ومن كيانات شتى إلى كيان أكثر تآلفا وانسجاما.. ومن الجهل إلى العلم، ومن الضعف إلى القوة.. ومن الفوضى والخوف إلى الأمن والاستقرار.. ومن ضياع الهوية إلى تحقيقها، ومن الضياع نفسه إلى معرفة الحق والحقيقة.. ويمكن أن نقول- بثقة- من لا شيء إلى شيء.. من وجود على الهامش إلى قوة فاعلة ومؤثرة ذات ثقل ديني وثقافي واقتصادي، والذين عايشوا حقبة العقود الثلاثة الماضية في هذه البلاد الطاهرة احتفظوا في ذاكرتهم بسجلات تحوي أرقاما وبيانات ومعلومات وإحصاءات من حركة التغيير “الإعجازية” التي حدثت رغم التحديات، والعوائق الاجتماعية والثقافية والتعليمية.. إنها قفزات مذهلة امتدت بطول البلاد وعرضها.. ملحمة بناء وتعمير نظمتها وصاغتها عقول كبيرة، وصنعتها سواعد فتية لا تكل، ونفذتها جهود لا تعرف الملل.. دبت الحياة في البلقع، ونبت القاحل وأعطى.. ارتوت الأرض ونمت العقول ونضجت وأبدعت.. إنها ملاحم إنجاز عظيمة سيسجلها التاريخ وتتغنى بها الأجيال القادمة.. وبرغم اختزالنا للزمن، وما وصلنا إليه من إنجازات رائعة فإن طموحاتنا ما زالت كبيرة وتطلعاتنا بسعة بلادنا، وما زلنا نعيش مع العصر وفيه، ومع كل حركة يتسع خطونا إلى الأمام، ولا نلتفت إلى الوراء إلا بقدر ما تحقق لنا إسهاما في صناعة مستقبلنا، وبقدر ما يرسخ أصالتنا ويقوي هويتنا.. ولعل هذا هو ما يحدونا إلى إعادة النظر في شئوننا، والتبصر في واقعنا من أجل صيانة مكتسباتنا، ومواصلة مسيرتنا، وتحقيق أهدافنا وإشباع طموحاتنا.. فنحن شعب لا يعرف الركون ويجب ألا نعرفـــه، إذ كلما دعتنا الحاجة إلى تصحيح مسار صححناه، وإذا اقتضت ظروفنا إعادة بناء أو ترميم إنجاز، بنينا وأنجزنا.. وتصحيح المسار، أو الترميم أو إعــادة البناء، أو تعديل الصياغات، كلها تُعد سمة حضارية لأن غايتها في النهاية تقوية البنية وسلامة البناء, وقد جاء حديث خادم الحرمين الشريفين عن قرب صدور نظام المقاطعات ومجلس الشورى في هذا السياق المنتظم المتواصل في الأنظمة وفي الإنجازات لتحقيق أهدافنا الكبيرة, وغاياتنا الطموحة في هذه البلاد الكريمة, وكلما برز في الأفق ملامح تجديد في الأسس والأنظمة.. وكلما شهدنا علامات صروح جديدة تهدف إلى عزة وكرامة إنسان هذه الأرض وتحقق استشعاره بمسئوليته ودوره في مجتمع طموح كريم.. وكلما أحسسنا بتحرك نحو الأفضــل استبشرنا كثيرا وزاد اطمئناننا على الحاضر والمستقبل فكل خطوة جديدة في مسارنا تعتبر إضافة عظيمة إلى ملحمة الإنجاز، وخطوة أخرى في طريقنا إلى العلا.. إننا حلقة في سلسلة معطيات هذا العهد الذي يستهدف مصلحة الوطن والمواطن.. فعندما كانت البنى الأساسية للتنمية هي الأولوية الملحة، اتجهنا إليها بقوة، وحشدنا طاقاتنا جميعها من أجلها.. وبعد أن اجتزنا حاجز الكم برزت الحاجة إلى التقويم، وإلى التصحيح وكانت هذه بدورها معبرا أو “بوابة” إلى مرحلة الكيف, تبدو عاجلة وملحة فأعدنا النظر في سياساتنا وفي أدائنا من أجل الوصول إلى صياغة جديدة تتعلق بالكيف وترتبط ارتباطا وثيق العرى بحاجة البلاد، ومتطلبات التنمية وبطموحـــات الأمة.. وتمخض ذلك في تطويـــر مؤسساتنا حتى كادت أن تصل إلى مصاف المؤسسات في الدول المتقدمة.. وما كان ذلك إلا لأننا نتحـرك.. وبما أننا نتصف بديناميكيــة الحركـة، فنحن إذن نعيش مع العصر، بل وفي قلب العصر، وعلمتنا هذه الديناميكية، وهذا التفاعل أن نجد لنا مسارا في سباق التطور والاستقلال.. فكلما جدت حاجة كنا أسرع في المبـادرة إلى تلبيتها وإلى إشباعها، مع الاحتفاظ بحركتنا داخـــل إطــار استقلالنا، وداخـــل الأطر التي ارتضيناها منهجا لحياتنا ولمجتمعنا، وبالشكل الذي ينسجم مع عقيدتنا، ويتناغم مع مضاميننا الاجتماعية..
إن المملكة العربية السعودية منذ نشأتها أقامت حكمها في جميع الأمور على كتاب الله وسنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لا تحيد عنهما، على ضوئهما تسير.. وبموجبها تبني وتشيد.. واضعة نصب أعينها عزة إنسان هذه الأرض وخدمة الإسلام والمسلمين في كل مكان.. وتعمل بجد وعزيمة على معايشة العصر واستثمار معطياته بما يهدف إلى التطور والرقى وتأكيد الثبات والأمن والأمان.. ولذا فإن معاودة النظر في مختلف الأنظمة كلما استجد جديــد وتحرك المجتمع مع حركــة الزمن تمثل نقلــة كبيرة وإضافة نافعة, وهذا ما حدث في مجمل الإضافات التي ظلت تشهدها الساحة الوطنية، إن إعادة النظر في أنظمتنا وما يسيّر شئوننا يعتبر إنجازا حقيقيا داخل الأطر السياسية والاجتماعية تضاف إلى رصيد الإنجازات التي تحققها الدولة للمواطن بصفة مستمرة, انطلاقا من فلسفتها ونهجها الإسلامي الذي يهدف إلى تكريم الإنسان، والسمو بقدراته الذهنية والروحية والعلمية والسلوكية وغيرها.. ولا شك أن المتتبع أو الناظر لهذا العقد المنضد من الانجازات, وإلى الخطط المستقبلية في البناء والتعمير, سيدرك أن وظائف الدولة قد تعددت وتشعبت- وخاصة خلال ملحمة البناء والأعمار الأخيرة- مما اقتضى توسيع قاعدة المشاركة في مجالات التخطيط والتشريع والإدارة والتنفيذ, وهو الأمر الذي تعمل عليه الدولة بقيادة خادم الحرمين الشريفين – أيده الله- .. وسيتحرك المواطن داخل هذه الدوائر ليشارك في مسئولية القرار وتنفيذه في إطار الاختصاصات التي أوكلت إليه على أساس من صدق والــولاء والإخــلاص في الانتماء، فالقـــرار أو التخطيط للفعـل مثلا- حسب مقتضيات العصر- يُبنى على المعلومة، وبما أنه يتعلق بمختلف النشاطات والشئون الحياتية فقد برزت الحاجة إلى الشخص المختص أو المتخصص.. فالجهاز التنفيذي ليس بالضرورة أن يكون موسوعيا وعالما بكل تفاصيل الحياة، وبالتالي فهو يقتطع جزءا من مسئولياته ويقلدها للمختص.. إذن فإن الاستعانة بأصحاب القدرات والتخصصات الدقيقة والرفيعة واستشاراتهم والاستنارة بآرائهم تضمن سلامة التنفيذ والتطبيق.. والاستشارة بشكل عام مبدأ ينبع من المبادئ الشرعية الواردة في الكتاب والسنة، وهي في هذه الحالة تجسيد لمنهج الدولة، ونظام سياستها، وأسلوبها العلمي في اتخاذ القرار.
وعلى أية حال فإن الاتجاه نحو التحديد في واقعنا.. ومراجعة خطانا.. لا يعني- على الإطلاق- تبني أطروحات أو نماذج غريبة على بيئتنا وعقيدتنــا بل يجب أن تكون أطروحاتنا الخاصــة تجسيدا لهويتنا وأصالتنا.. فنحن أمــة لها تاريــخ، ولها عقيدة، ولها حاضر، ومن خلال هذه المعاني قادنا نظام الحكم منذ توحيد هذه البلاد على يد الملك عبد العزيز إلى الاستقرار والأمن والرفاهية.. ومن مسئولياتنا أن نحافظ على مكتسباتنا ونساعد على تنميتها وتطويرها، وأن يكــون لنا جميعا إسهام حقيقي في ملحمـة الإعمار والتطور والـرقي، وبما إننا شعب يملك الإرادة، وقــادر على الحركة وتمييز حاجاتــه الخاصة بسبب التعليــم الذي قاد سفينته خــادم الحرمين الشريفين وما ترتب على ذلك من عوامل الوعي والقدرة, فإن أي خطوة جديدة نحو تأكيد ثقة المواطن في ذاته واحترام قدراته ستضاعف طموحاتنا، وتشحن طاقاتنا للمزيد من النمو والتطور.. ولا شك أن اتساع قاعـــدة المعرفــة سيؤهل المواطنين إلى مضاعفــة المشاركة في مسيرة التنمية، ويدفعهم أكثر إلى المحافظة بقوة على مكتسباتهم.
إن ملحمة البناء لن تتوقف، وإن المراجعات وإعادة النظر لا تعني شروخا في البيئة الأساسية، وإنما تجسد الطموح لإحكام البناء ثم تحقيق الانسجام بين مختلف شرائح المجتمع.. الانسجام الكامل بين القاعدة والقمة، لننعم أكثر بمظلة الأمن والأمان والعدل والاستقرار.. ونعيش مجتمعا متماسكا في ظل التقوى والإيمان والعلم. والسلام.
د. ساعد العرابي الحارثي