محاضرات عامة

واقع الصحافة الرياضية والتحرير

1410هـ -1989م:

بسم الله الرحمن الرحيم

أيها الأخوة الكرام .. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

عندما قرأت العنوان لهذه المحاضرة التي دعيت لها هذه الليلة .. تأكدت أن للرياضة أشكالا وصياغاتٍ مختلفةً عن المألوف حتى أن كان الأمر يتعلق بمحاضرة.. ولكنني قررت بإرادة كاملة المشاركة بجهد المقل معكم الليلة.. على الرغم من أنني أولا: صاحب علاقة ضعيفة بالرياضة عموما.. فإذا كنت أتمتع بها مشاهدةً فإنني أتعب منها قراءة.. ثانيا: التعامل في الساحة الرياضية بالكلمة مسموعة كانت أو مكتوبة محفوف بتكدير الخواطر.. فالساحة الصحافية الرياضية أولا: مشاعة وثانيا: ملتهبة.. على الرغم من كل ذلك فلا مانع من أن نتحاور بشكل حضاري من أجل الأفضل.. وأرجو أن نفهم أن الهدف ليس الإثارة أو التجريح أو النقد للنقد ولكن المصلحة العامة وهذا هو المهم.. مصلحة هذا المواطن التي نحن مسئولون عنها جميعا.

أيها السادة: إن الصحافة قوة في تغيير المواقف والاتجاهات للناس كما هي الحال مع الوسائل الإعلامية الأخرى.. وهي أيضا وسيلة مهمة لانتشار الوعي واتساع أفق المعرفـــة.. ولا شكّ أن انتشار الوعي هو- في حقيقــة الأمر- الأساس للتقدم والتطور والتغيير.. فالوعي الكلي هو المطلب الحقيقي للتنمية والتطور.. وهو ضالة منشودة للتطور الإنساني.. وبلغ هذا الوعي ذروته لدى العرب في القرن السابع بظهور الرسالة الإسلامية.. والثورة الحضارية التواصلية المعاصرة هي رسالة الإعلام بالكلمة والصوت والإلكترون.. ولكن للكلمة قدسيتها وعلوّها وعبقريتها كمحتوى آلي للتواصل الإعلامي.. والكلمة في ظل التطور الحضاري ما بعد الصناعي للربع الأخير من القرن العشرين هي المعرفة.. فالحضارة المستقبلية هي الحضارة المعرفية.. وسيكون الأسبق معرفة ما هو الأسبق تطورا وهنا يكمن دور الصحافة بالإضافة طبعا إلى الوسائل الإعلامية الأخرى ويقول (KELLOCK) إن الثورة ما بعد الصناعية تمتاز ببروز صناعة المعرفة وببزوغ الاجتماع المؤسس على الإعلام.. وإن الحضارة تتحول من إنتاج السلع المادية وتوزيعها إلى تجميع المعلومات وتوزيعها.

من هذه الكلمات المختصرة ندرك أهمية الكلمة كأساس للوعي والمعرفة, وتمثل الصحافة المطبوعة إحدى وسائلها.. وعلى الرغم من تعددية وتنوع وسائل الاتصال المكتوبة والمسموعة والمرئية إلا أن الكلمة المطبوعة لم تتراجع عن مكانتها كثيرا, واستطاعت وسائلها البقاء بقوة في الساحة رغم المزاحمة القوية من الراديو والتلفزيون على وجه الخصوص.. ولا يمكن إنكار أن الراديو والتلفزيون قد حققا انتصارات كبيرة في ساحــة المنافسة مع الصحافـــة, واستطاعا احتلال مكانــة بــــارزة في الجذب والتأثير, غير أن وسائـل الإعلام المطبوعة عملتا على التكيف مع الواقع الجديد وبلورة رؤية جديــدة لأدوارها ومهماتها ووظائفها.. وقد ساعـــد الصحافـــة على الاستمرار والمنافسة التطور التقني المستمر في مجال الطباعــة, وما تمتلكه أيضا من مميزات بحكم طبيعتها مثـــل “الاسترجاعيــة “, وضمان عامـــل الحريــة في اختيار المادة أو الصحيفــة التي يراد قراءتها مع حريـــة تحديــد الوقت المناسب للقراءة.. كما أن التنوع في المضمون الصحافي يتيح لنا اختيار المادة التي تتفق مع رغباتنا وميولنا خاصة أن الصحيفة أو المجلة الواحدة تتضمن الكثير من البدائل للقراءة.. لذا بقيت وسائل الإعلام المطبوعة في الميدان الإنساني تسير بثبات وتعمل باقتدار على اجتذاب القارئ, وتحقيق أهدافها دون الاستسلام لقوة وسيطرة وسائل الإعلام الإلكترونية.. وتقرِّر بحوث الاتصال أنّ الصحافة لم تفقد التأثير على المتلقين, وأنها تقوم بدور فعال في الإسهام في حل المشكلات وتلبية الاحتياجات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في مجتمعاتها.

هذه حقيقة أردت إقرارها وتأكيدها بعد أن خشي الصحافيون أنهم قد يقفون في الصفوف الخلفية في ساحة يتسيدها الإعلام الالكتروني, فالصحافــة لا تزال وسوف تستمر وسيلــة إعــلام وتعليم رئيسية وفاعلة.. وسوف تستمر قوة دفاعية وصحفية قادرة على خلق رأي عام.. كما أنها لم تتراجع عن مكانتها في التعبير عن حركـة المجتمع اليومية.. وقدرتها على صياغة وحدة مجتمعية شمولية.. إلا أن هناك سؤالا قد يتبادر للذهن ويلح على البروز, ونحن نؤكد حقيقة أبعــاد هذه الصورة المشرقـــة لواقـــع ومستقبـــل رسالة الصحافة.. هذا السؤال هو: ما مدى التزام الصحافة –بالأمس- التي يجب أن تقوم عليها رسالتها؟ وهل يتم بناء مضمون الصحافة وفقا للمهمات التي يجب أن تؤديها لمجتمعاتها انطلاقا مما تفرضه المسئولية الاجتماعية؟!

في الواقع أن إجابة مثل هذا السؤال تستوجب محاضرة كاملة تقوم على الأسس العلمية المنهجية من أجل الوصول إلى نتائــج موضوعية بيد أن ذلك لا يمنع من الاجتهاد في مثل هذا المقام.. ونقــول باختصار شديــد: إن الصحافـة التي لا تكون محكومة بالمسئولية الاجتماعية هي- في حقيقتها- صحافة هدم لا صحافة بناء.. والمسئولية الاجتماعية الحقيقية هي التي تنبع أولا وقبل كل شيء من الذات.. وتقوم على الصدق والانتماء الوطني والولاء للمجتمع بكل مضامينه.. والابتعاد عن الهوى.. وتقديم مصلحة المجتمع على المصالح الفردية.. ومن جانب آخر الالتزام بما اصطلح عليه بالأخلاق الإعلامية أو “أخلاق المهنة” وهي التي تقوم على مصلحة الآخرين أولا, ومصلحة العمل ثانيا.. وهي عامل أساس لخلق الثقة وإلا فسوف تنحرف الصحافة عن أهدافها البنائية.

ومن العوامل الأخرى التي تحقق للصحافة تكامل رسالتها, الالتزام بالموضوعية فيما تنشر.. وندرك جميعا أن الموضوعية المطلقة قد تكون صعبة التحقيق.. فهي في الصحافة الموجهة غيرها في الصحافة المطلقة.. غير أنه يمكن للصحافي المتمرس المسئول أن ينتهي إلى صيغة مشتركة بين موضوعيــة الذات وموضوعيـة التوجيه, على أنْ تقوم مثل هذه الموضوعية على أساس الحقيقة والمضامين الاجتماعية بكل ما تمثله من عقيدة وقوانين وأعراف, ومن أجل الوصول إلى هذا المستوى الكمالي للصحافة, فإنّ ذلك يتطلب توافر العنصر البشري الذي يتمتع – بالإضافة إلى ما سبق – بصفات لا بدّ من توافرها لتحقيق أهداف الصحافة منها, كما قال باحث عربي: سعة الإدراك ونفاذ البصيرة وخصوبة الخيال وعقل منظم ومتوازن, ينطوي بداهــة على ملكـــة التمييز والقــدرة على رؤيـة الأشياء وفقا لبعدها النسبي, وسرعة التفكير ويقظة الضمير والحماس, والقدرة على الحكم والتمييز التي تقوم على أساس الفطرة السليمة, والقدرة على استيعاب الحقيقة والخيال والتعبير عنهما.. والقدرة على التكيف مع وجهة نظر وحاجات المتلقي, وغير ذلك من الصفات التي لا بدَّ منها للصحافي الناجح.

والآن بعد هذه الرؤى المختصرة جدا من صحافة الكمال والحقيقة دعونا نطرح هذا السؤال: ماذا عن الصحافة العربية كما هي في الواقع؟

ومرة أخرى, أعتذر عن الإجابة التفصيلية فذلك أمر يطول ليس هنا مجاله.. ولكن يمكن التأكيد بأن بعض الصحافة العربية تميل إلى الإثارة وإلهاب العواطف في كل اتجاه وبفعل أي موضوع.. وإذا كانت الإثارة العاطفية تتلاشى قليلا في ساحة الصحافة السياسة, فإنها تبرز بوضوح في ساحة الصحافة الرياضية والفنية.. وهي إثارة لا تحسب – بكل آسف – حسابا للموضوعية ولا للقوانين والأعراف والتقاليد الاجتماعية.. بل إنها إثارة, إما لتحقيق دوافع ذاتية بحتة, أو لتحقيق مكاسب ماليـــة بمخاطبـــة عواطف المتلقين من أجل زيادة التوزيع .. وبهذا النهج يفقد هذا النوع من الصحافة أهليته للاضطلاع بمسئوليته تجاه المجتمع.. وقد نجد من يقول إن الإثارة في الصحافة الرياضية والفنية ليست أكثر من التجاوب مع رغبات القراء.. وإن من مسئولية الصحافة تحقيق هذه الرغبات .. وعلى الرغم من عدم وجود أي مؤشر يثبت لنا صحة مقولة الرغبة هذه – ما عدا عامل التوزيع وهو لا شكّ عامل مهم – إلا أنه يجب التفريق بين الرغبة وبين الحاجة.. فالرغبة من جانب قد تكون نتيجة لما يجده القارئ من مكافأة مباشرة تقوم على مبدأ الإحساس باللذة.. أو ما سمّاه الباحث الإعلامي ولبورشرام بالثواب العاجل.. ومثل هذه المكافأة تتضاعف عندما تقل أو تنعدم البدائل.. ولذا يمكن القول إن إقبال القارئ على الصحافة الرياضية والفنية إلى حد ما, هو نتيجة لرغبات آنية لا يمكن تحقيقها بأسلوب آخر.. وباستمرار الصحافة في التعامل مع هذه الرغبة بشكل مكثف كما هو عليه الحال قد تتحول هذه الرغبة إلى حاجة تصبح مع الزمن مشكلة اجتماعية.. أما بالنسبة للحاجة – من جانب آخر وكما هي في المصطلح الإعلامي – فيتمثل في تحسس الصحافة لما يحقق بناء حاضر ومستقبل المجتمع وخاصة فيما يعرف بالتكوين العقلي, أو ما سمّيناه في بداية المحاضرة بالوعي والتكوين المعرفي.. ومثل هذه الحاجة تكثر في المجتمعات النامية أكثر منها في المجتمعات المتقدمة.. صحيح أن الرياضة والفن حاجة ترفيهية.. لكنها تحولت بفعل وسائل الإعلام إلى حاجة أساسية.. ومثل هذا الواقع الإعلامي يتنافى مع الرسالة التي يجب أن تؤديها وسائل الإعلام في الدول النامية التي تناضل من أجل بقاء الإنسان فيها.. وتناضل للانتصار على الأمية ونشر الوعي.. وتعمل جاهدة من أجل وجودها وصناعة حاضرها.. تناضل من أجل استقلالها الذاتي في قرارها وفعلها.. في غذائها ومعارفها.

إن الرياضة رغبة ترفيهية والتجاوز بها عن هذا المفهوم خطأ يرتكب بحق المجتمع, وعامل تعطيل لحركة البناء.. ونجد أن الدول الأكثر تقدما أقلَّ اهتماما بالرياضــة فلا اليابــان ولا الولايـات المتحدة ولا الاتحاد السوفيتي تعطي من الاهتمام للرياضة ما يساوي حتى (30%) مما تحظى به في الدول الأقل تقدما.. والدول الكبرى تتعامل مع الرياضة كرغبة ترفيهية لا كحاجة ضرورية.. ولذلك لا يمكن أن تقوم وسائل إعلامهم بجدولة اهتمامات شعوبها حول الرياضة.

إن جدولة الاهتمامات أو ما يسمى بالمصطلح الإعلامي (AGENDA SETTING) من أهم أسرار قوة الإعلام.. وهو الأساس فيما إذا أرادت وسائل الإعلام بلورة اتجاهات جديدة وتغيير مواقف ثابتة.. ولذلك فإن الاحتفاء الإعلامي الكبير بالرياضة بجدولة- شئنا أم أبينا- اهتمامات الشباب نحو هدف هناك ما هو أهم منه بكثير في مسيرتنا التنموية.

وإذا نظرنا إلى صحافتنا نجد أنها تفسح ما بين (15-20%) من صفحاتها للرياضة بدعوى تلبية رغبة المتلقين التي يمكن قياسها بزيادة التوزيع كلما أعطت الصحيفة اهتماما زائدا للرياضة.. ولكن ألا يمكن القول بأن هذه الرغبة ليست نابعة من الذات بقدر ما هي نتيجة صنعتها الصحافة ذاتها.. فقد جدولت اهتمامات القراء حول الرياضــة حتى تحولت الرغبــة إلى حاجــة.. طبعا هناك أسباب أخرى منها أن الرياضة لا تتعامل مع العقل كما هو الحال مثــلا مع السياسة.. وأن محاذيرهــا قليلــة.. وقابلة للفهم والاستيعاب بصرف النظر عن المكانة التعليمية أو الثقافية أو الاجتماعية للمتلقين.. ولعل ذلك ما جعل الصحافة تعطي اهتماما كبيرا للرياضة, وبالتالي إقبال القراء ثم زيادة التوزيع إلا أنه يجب تغليب مصلحة الوطن ومصلحة المجتمع على المكاسب المالية والذاتية.. ولن أتحدث هنا بالتفصيل ولكن دعونا الآن نتحدث عن التحرير الصحافي في الصفحات الرياضة.

لقد قلت في بداية هذه المحاضرة إن علاقتي مع الصحافة الرياضية قراءة ضعيفة, لا بل إنني أكاد أجزم- من خلال القراءات المتقطعة- أن العلاقة بين ما نقرأه في الصحافة من أساليب وصيغ وبين المفهوم العلمي للتحرير الصحافي علاقة هشة تكاد تكون في أغلب الأحيان منعدمة.. وقبل أن يستثير هذا القول أحدكم أو يفهم بطريقة مختلفة عما يجب أن يكون، دعوني أوضح أن الأساليب والمعالجة التحريرية وصيغ التعليق والتحليل وحتى الأخبار في الصفحات الرياضة كما تطالعنا بها كل يوم, هي إمّا إفراز لمحاكاة صحافتنا منذ النشأة لصحافة عربية مجاورة تعتمد المبالغة والتضخيم وتغليب المصالح الذاتية.. وأصبحت هذه المحاكاة عرفا وتقليدا صحافيا حتى اليوم يتناقله الصحافيون الرياضيون واحدا بعد الآخر, وإما نتيجة لضعف في الصفات التي يجب توافرها في الصحافي الممارس كما ذكرتها سابقا.. وأعتقد من جانبي أن الجمع بين المحاكاة وضعف الصفات سبب في الواقع الذي نراه للصفحات الرياضية .. واسمحوا ليّ- بهدف الإصلاح القول بأن ما نقرأه في الصفحات الرياضية يجانب الصواب إلى حد ما صياغة.. ويجانب الصواب إلى حد ما فيما يتعلق بالموضوعية.. ويتخذ من المبالغة وسيلة للعرض..

وينطلق من مواقف مصممــة سلفا.. فالخبر لا يمكن أن يخلــو من رأى وهذا خطـأ يخالف كل مفهوم صحيح للصحافة.. والتعليق أو التحليل لا يتجاوز أسس المقالــة.. وكل هذه تنطلق من مواقف مسبقة.. والحقيقة العلمية تقول “إن التعليق الذي يأخذ صفة التحليل الذي ينطلق من موقف مسبق خطأ”.. فالمواقف السابقة أو المواقف الثابتة لا تتيح تحليلا سليما، ولا الوصول إلى نتائج صحيحة وإذا كان الكاتب أو الصحافي كاتب التحليل لا يتمتع برؤية ولا يملك إطارا نظريـا محددا فإن تحليلاته تأتي متناقضة.. فلا الحاد المتعصب هو المطلوب.. ولا عدم اتخاذ موقف يساعد في التحليل السليم.. ولعل المواقف المبينة على مصلحة المجتمع انطلاقا من المسئولية الاجتماعية هي المطلوبة.

وقبل أنْ نختتم هذه المحاضرة يجب الإشارة إلى أن بحثا عن الصحافــة السعوديــة أوضح بأن قراءة الصحافـــة الرياضيـة ليست هدفا بذاتها وعلى وجه الخصوص بين الشباب الجامعي, بقــدر ما هو البحث عن إشباع رغبــة اللــذة الآنيــة وذلك لقلة البدائـل من جانب ولضعف الثقة في مضمون هذه الصحافة من جانب آخر.

أيها الأخــوة.. هذه ملامــح عريضــة لقضيــة مهمة.. أرجو أن أكون قــد وفقت في عرضها عليكم.. وأستمحيكم العذر في التقصير وأيضا في التعامل مع الحقيقة.

وأشكر للرئاسة العامة لرعاية الشباب ثقتها ودعوتي للقائكم الليلة.. متمنيا لندوتكم كل توفيق.. والسلام.

د. ساعد خضر العرابي الحارثي

الرئاسة العامة لرعاية الشباب

زر الذهاب إلى الأعلى