محاضرات عامة

1411هـ -1990م:

الصحافي الأديبُ والأديبُ الصحافي: تداخلٌ في المفاهيمِ واختلاطٌ في الأدوارِ

محاضرةٌ للنادي الأدبي بالطائفِ

أعدادُ وتقديمُ:
الدكتور ساعد العرابي الحارثي
الأستاذ المشارك ورئيس قسم الإعلام
والمشرف على التحرير والإدارة بصحيفة
” رسالة الجامعة”- كلية الآداب – جامعة الملك سعود – الرياض

أيُّها الأخوةُ الكرامُ:
يسعدني كثيرا أن ألتقيكم في هذهِ الأمسيةِ الجميلةِ.. وللطائف في شغاف القلب محلٌ متغلغلٌ ولها في الذاكرة موقعٌ لا يعتوره النسيانُ.. ففي هذه المدينة الشَّامخة كشموخ أهلها بدأت خطواتي الأولى نحو المعرفة وفي هذه المدينة التَّاريخ عرفت أوَّل مكتبة.
وفرحتي باللقاء بكم في هذه الليلة كبيرة.. فالطائف وطنٌ للأدب كما هي أيضا ساحةٌ للثَّقافة والفكر والإبداع.. شكرا للنادي على دعوته الكريمة وشكرا لكم لتفضلِّكم بالحضور.
أيُّها الأخوةُ:
عندما تحدَّثت والأخ محمد منصور الشقحاء قبل فترةٍ من الزَّمن عن مدى إمكانيَّة إلقاء محاضرةٍ في هذا النَّادي الأدبي النَّشط.. استجبت وفي الخاطر سؤال ما لبث أن أصبح أكثر إلحاحا.. ما علاقتي أنا بالأدب كتخصُّصٍ؟.. وفي دوَّامة محاولة بلورة موضوعٍ للمحاضرة جاءني خطاب من الأخ/ القرني يطلب فيه سيرة حياتي الذاتية وبعض مما كتبت لنشره في كتاب ( أدباء من الطائف).. وقفز السؤال مرة أخـــرى وأنا لم احدِّد بعد موضوع المحاضرة التي استجبت للمشاركة بها في نشاطات هذا النادي.. وبدأت الكثير من علامات الاستفهام تحاصر ذهني عن ماهيَّة الأدب وماهيَّة الثَّقافة والفكر والصَّحافـة والتخصُّص.. وأسئلةُ كثيرةُ ومتنوعةُ عن الحدود الفاصلة بين فنون الكتابة والتصنيفات لكلٍّ من هذه الفنون.. ومدى معرفة الناس بكلِّ فنٍّ.. وتذكَّرت ما سبق وأن أطلق عليه كاتب ( الاتِّصال) المشهور ( ميرل): الشَّمولية في المفاهيم والتَّشابك الفكري والذي ينطبق على هذا الواقع.. والتخصُّصيَّة في حقيقة الأمر مرحلةُ متقدِّمةُ لا بدَّ أن تسبقها شروطٌ وعواملُ كثيرةٌ فيما يتعلَّقُ بالتَّعليم والوفرة ومكونات المعرفة والوعي العامِّ وطلاقة الفكر وانطلاقة الرَّأي..
وهذه الشروط إذا كانت قد توافرت في الدُّول المتقدِّمة فإنَّها لا تزال في الدُّول النَّامية محدودة الوجود وأحيانا قد تكون عديمته, وذلك بحكم عوامل التطوّر والظُّروف الأخرى المساعدة.. وعلى كلٍّ فلقد تذكَّرت أيضا خطواتي الأولى في ساحة الصحافة وكنت أيَّامها طالبا في المرحلة الثاَّنوية عندما وجدت نفسي محاصرا بين أناسٍ يتحدَّثون عن المتنبِّي وأبي تمَّام والبحتري وجرير.. وأيضا عن أبي نواس وبشَّار بن برد.. وطه حسين والعقاد وشوقي والمازني والحكيم وإحسان عبدالقدُّوس وغيرهم من الذين احتلَّت أسماؤهم الذَّاكرة العربية.. فاجتهدت وأجهدت ذاتي في القراءة لهؤلاء بحكم التأثر بالرموز في السماء العربية.. وأيضا- وهذا هو المهمُّ- لإثبات المكانة الثَّقافيَّة.. تذكَّرت كلَّ ذلك وأنا أفكِّر في موضوعٍ يصلح مضمونا لهذه المحاضرة ويتفِّق مع رسالة وأهداف النادي الأدبي.. فكان لا بدَّ من الانطلاق من موقع الحيرة ومحاولة الإسهام في معرفة شيءٍ عن إشكالية تداخل المفاهيم واختلاط الأدوار.. وأخيرا وقع الاختيار لموضوع المحاضرة ليكون: ( الصَّحافي الأديب والأديب الصَّحافي: تداخلٌ في المفاهيم واختلاطٌ في الأدوار).. وعندما وصلت إلى هذه النَّتيجة فرحت أيضا فرحا قد لا يقارن بسعادة ( أرشميدس) عندما وجد ضالَّته.
أيُّها الأخوة:
على الرّغم من أنَّ الأدب قد سبق الصَّحافة في الوجود والمكانة بمراحـــل زمنيَّة طويلة إلا أنَّه سرعان ما اتَّجه إلى احتضانها إبّان نشأتها.. والقول لا ينطبق على العالم العربي فحسب ولكنَّه ينسحب أيضا على الأمم الأخرى. ولذلك نشأت علاقةٌ خاصَّةٌ بين الأدب والصَّحافة وهي في مجملها علاقةٌ سببيَّةٌ لعبت المصلحة فيها دورا كبيرا.. فقد وجد الأدباء في الصَّحافة – بحكم خصائصها في الانتشار والتَّوزيع- وسيلة تحمل إنتاجهم على نطاق واسع إلى أكبر شريحةٍ في المجتمع بصرف النَّظر عن المستويات التَّعليميَّة والثَّقافيَّة والاجتماعيَّة.. كما وجدت الصَّحافة عند نشأتها في الأدب مضمونا يلقى تجاوبا وإقبالا من قبل القرَّاء.. وكان هؤلاء – في بداية نشأة الصَّحافة – صفوةً من المجتمع تربَّت في ساحة الفنون الأدبية بحكم سيادتها للسَّاحة وتفرُّدها بمخاطبة المجتمع، وتعلمون كيف كانت مكانة الشَّاعر والأديب عبر التَّاريخ وقبل الثَّورة التّقنية في علوم الاتِّصال والتي بدأت بـ”جوتن بيرج” في القرن الخامس عشر الميلاديِّ وتعاظمت حتَّى وصلت إلى الأقمار الصِّناعيَّة والاستشعار عن بُعد وتدفَّقت المعلومات وعلوم الحاسب الآلي.. ولا أعتقد أنَّ المجال يسمح أو أنَّكم في حاجـــة إلى تفاصيــل تاريخيــَّة تستعرض مكانـــة وادوار الأدب في المجتمع وآثاره في الحياة الرّوحيَّة والمادِّية لمجتمعات ما قبل ثورة تقنيات الاتِّصال، باعتبـار أنَّه أحد المصادر الأساسيَّة للفكر والثَّقافة.
وفي ذات الوقت لا أجد مجالا للتتبُّع السَّرديِّ لمشوار التزاوج بين الأدب والصَّحافة ولكنَّني أقول باختصار شديد: إنَّ هذا المشوار قد بدأ بحبٍّ خاصٍّ وقويٍّ وانتهي عند بعض الأمم إلى طلاقٍ بائنٍ لا رجعة فيه.. وإن لم يكن كذلك في عالمنا العربي، فالواقع أنَّ العلاقة لا تزال قائمةً إلى حدٍّ ما إلاَّ أنَّها لم تُعد بدرجة الحرارة ذاتها التي كانت عليها في بداية هذا القرن وحتَّى الستينيات منه.
ومنذ ذلك التَّاريخ لاحت في الأفق ملامح خصومة بين الصَّحافة العربيَّة والأدب العربيِّ.. الصحافة ترى بأنَّها فنٌّ وعلمٌ قائمٌ بذاته ولها خصائصها ومهمَّاتها وأساليبها المختلفة ووصلت إلى قناعةٍ تامَّةٍ بأنَّ الاستعمار الأدبي لها يجب أن ينتهي, ومن الجهة الأخرى فلقد رأى الأدباء بأنَّهم هم أصحاب الفضل الأول في نشأة وتطوَّر الصحافة وأنَّهم أحقُّ بها من غيرهم.
واستمرَّ هذا التوتُّر بين الصّعود والهبوط وإنْ استطاع الأدباء – وخاصَّة في مصر- تأكيد حضورهم واستمراره في الصحافة، ولكن الملاحظ أنَّ هذا الحضور قد تناقص بشكلٍ كبيرٍ حتَّى وصل إلى أدنى مراحله في أواخر العقد الماضي.
وقبل أن نلجَ إلى لبِّ مشكلة التداخل في المفاهيم والاختلاط في الأدوار بين الصحافة والأدب، والتي لا تزال تتصدر السَّاحة الفكريَّة والمهنيَّة وخاصَّة في وسائل إعلامنا وأوساط مثقَّفينا وأدبائنا وبالتالي في المجتمع, يكون من المناسب النَّظر بإيجاز في طبيعة ومفهوم كلٍّ من الصَّحافة والأدب.. فالصَّحافة وسيلة خبريَّة من وسائل الإعلام الجماهيري وعلى الرّغم من منافسة الوسائل الإعلامية الإلكترونية لها إلا أنَّها لا تزال تحتلُّ موقعا مرموقا في التَّأثير على الرَّأي العامِّ.. وهي – في حقيقتها- مهنةٌ وحرفةٌ تتعامل بواسطة الكلمة المطبوعة مع الخبر والتقرير والصورة والإعلان والتعليق وغير ذلك من الفنون الصَّحفيَّة.. كما تهدف أيضا- كمفهوم- إلى تلبية احتياجات النَّاس والتكامل مع الرَّأي العامِّ من حيث التَّأثير المتبادل.. وفي خضم القيام بهذه الأدوار أصبحت الصَّحافة تقوم على ثلاثة مفاهيم هي ( الحيادي) الذي يقوم على الموضوعيَّة الصَّحافيَّة بعيدا عن التَّدخُّل الذَّاتي أو الميول الشَّخصيَّة ووفقا لهذا المفهوم فإنَّ مهمَّة الصحافة هي أبراز العالم كما هو في واقعه.
والمفهوم الثاني هو ( الغامض أو متعدِّد الأدوار) والذي يرى أن مسئولية الصَّحافة اللعب وفقا لما تمليه الظّروف والمواقف وما تسمح به الأمزجة والمصالح.
والمفهوم الثالث هو ( القيادي) الذي يقوم على أنَّ مهمَّة الصَّحافة تكمن في التّوجيه.
والصَّحافة بعكس الأدب ترتبط مع الزَّمن ارتباطا وثيقا بل وتتسابق معه.. أو كما يسمِّيها الفيلسوف “شوبنهاور” أنَّها عقرب الثواني للأحداث العالميَّة. وعلى الرّغم من أن الصَّحافة يجب أن تؤدِّي رسالة وفقا للمسئوليَّة الاجتماعيَّة تجاه مجتمعها إلَّا أنَّها بناء على ظروف وتوجّهات العصر الاقتصادية أصبحت في أغلب جوانبها صناعة تخضع لمبدأ الربح والخسارة, ولعلَّ هذا ما جعل فاروق خورشيد يقول: ( إن الأدب فنُّ التعبير.. والصَّحافة صناعة الاتجار بالخبر.. ولن يصل الأدب في يومٍ من الأيام إلى مرتبة الحرفة.. إلا إذا تنازل عن حريَّته، ومسئوليته، ليخضع لعبوديَّة أصحاب الحرف).. والسؤال: هل تنازل الأدب- فعلا- عن حريَّته؟ وهل أصبح أجيرا في بلاط الصَّحافة؟
الإجابـة هنا تحتـاج إلى رويـَّـة وتدبـُّـر وإلى تفكير ونقـاش.. وليس مهمَّا أن نقفز إلى النَّهاية بإجابة تحمل معنى (لا) أو (نعم).. أو على الطريقة العربيَّة المعتادة (لعم).. ولكن الأهم هو مدى صحَّة الإجابة ودقَّتها.. ويمكن التَّأكيد أنَّه في حالة غياب الدِّراسات المنهجيَّة الدَّقيقة لمثل هذه القضايا يصعب – إن لم يكن يستحيل- الوصول إلى مرحلة الجزم بصحَّة ودقَّة الإجابة.. وقد يُعتدُّ بالرَّأي.. ونحترم قول الأكاديميين والمفكِّرين والمثقَّفين بيد أنَّ النَّتائج التي تصل إلى مستوى الحقائق لا بدَّ لها من دراسات كمِّية أو نوعيَّة وفقا لأسس المنهج العلمي.. أذن لا نملك إجابة جاهزة على الأسئلة السابقة.. ولا نزال في طور الحركة داخل أبعاد الاختلاط والمداخلات في ميادين الصَّحافة والأدب.. وإذا كانت الصَّحافة- كما قلنا لها أسسها وأصولها العلميَّة والفنيَّة والمهنيَّة ولها ارتباط وثيق بالمؤثرات الخارجيَّة- فإنَّ الأدب على النَّقيض من ذلك تماما، فهو يلتزم في الغالب بالذَّاتيَّة وليس الموضوعيَّة.. والدوافع المؤثِّرة في ولادة الأعمال الأدبيَّة تنبع من داخل نفس الكاتب.. وليس لمثل هذه الأعمال ( الذاتيَّة) التّأثير المباشر على المجتمع والبنية الثقافيّة والأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة كما هو الحال مع الموضوعات الصَّحفيَّة.
إذن الصَّحافة مهنةٌ.. والأدب فنٌّ.. والفرق بين المهنة والفنِّ- كما يقول أمين الخولي- هو: الفرق بين الصحافي والأديب.. وبصرف النَّظر عن دقَّة الدّلالة في هذه التَّعريفات.. إلا أنَّ ذلك يمثِّل مؤشِّرا مهمَّا على التخوم الفاصلة بين الصحافي والأديب.. فعلى المستوى الأدبي يعكس الأديب من خلال أعماله- سواء كانت قصَّة أو رواية أو مسرحيَّة أو قصيدة أو مقالة أدبيَّة- إحساساته وتأملاته ومواقفه وتجاربه في صيغ أدبيَّة تغلب عليها صفة الذاتيَّة.. أمَّا على مستوى الصَّحافة فإنَّ الواقع جدُّ يختلف.. فالصحافي لا بدَّ أن ينظر إلى الأحداث نظرة موضوعيَّة – أو هكذا يُفترض- بعيدا عن الذاتيَّة.. ويتناول موضوعاتٍ تكون شاملةً لكافة فئات المجتمع وتعنى بالقضايا والمشكلات على المستوى المحلي والإقليمي والعالمي.. وبلغ من تأثير الصَّحافة أن احتلَّت في العالم الديمقراطي السّلطة الرابعة بعد السّلطة القضائيَّة والتشريعيَّة والتنفيذيَّة.
ويمتدُّ التباين أيضا إلى الأسلوب فالصَّحافي لا يشترط في تعبيراته جمال الأدب الخالص ولا دقَّة العلم المتخصّص، وإنما يعبِّر عن موضوعاته بلغة خاصَّة تسمَّى ( اللغة الإعلاميَّة).. وهي ليست اللغة الدراجة بين العامَّة بكلِّ تشوّهاتها ولا هي اللغة الأدبيَّة الجزلة.. ولكنَّها تأخذ من اللغة قواعدها وصحَّة التركيب واستقامة الصياغة.. ومن الحياة اليوميَّة اصطلاحاتها بهدف إيصال المعنى إلى عامَّة النَّاس.. بينما يعتمد الأديب على أساليب للتعبير قد تخرج من أرض الواقع إلى مجالات الخيال والصورة معتمدا على التَّشبيه والاستعارة والمجاز والمحسِّنات اللفظية الأخرى.. فهو بالإضافة إلى إيصال المعنى في صور خياليَّة جميلة يهدف إلى الإمتاع.. والإمتاع ومخاطبــة الوجدان من سمات الأدب، بينما الصَّحافة تتعامل مع الواقع كما هو بموضوعيَّة في نقل الحقائق والمعلومات.. ” ومن حقِّ الصَّحفي طبعا أن يكتب في الأدب، كما هو من حقِّ الطَّبيب والمحاسب وغيرهم، فالأدب كما قلنا ليس مهنة ولكنَّه فنٌّ.. والفنُّ – أيّ فنٍّ – ليس وقفا إلا على صاحب الموهبة والأداة.. فهو ليس حكرا على طائفةٍ دون أخرى.. ولن يصل في يومٍ من الأيام إلى مرتبة الحرفة إلا إذا تنازل عن حريَّته ومسئوليته ليخضع لعبودية أصحاب الحرف للقمة العيش ومتطلبات الحياة اليوميَّة العاديَّة”.
وهنا وبالنَّظر إلى واقع الصَّحافة والأدب في بلادنا.. يبرز السُّؤال مرَّة أخرى.. هل وصل الأدب إلى مرتبة الحرفة والبحث عن لقمة العيش؟
لن نستعجل الإجابة أيضا.. ولن نستحثَّ ركائب العجب.. ولكن دعونا نسير في تسلسل قضيتنا هذه حتَّى نصل معا إلى إجابة واضحة أو مستنبطة.
وكما سبق وأن أشرنا فإنَّ الصَّحافة في العالم العربي قد بدأت خطواتها الأولى طفلا رضيعا في حضن الأدب.. تستمدُّ منه وجودها وعوامل استمرارها.. وكان كتاب الأدب والنَّقد هم الأعمدة الأساسيَّة التي قامت عليها البدايات الصَّحفية في نشأتها الأولى.. وكان قارئ الأدب والنَّقد هو المستهدف بمادَّة الصَّحيفة وهو المستهلك الأوَّل لها, ولذلك تسابقت وتنافست الصّحف في استقطاب واستكتاب أكبر عدد ممكن من أصحاب الأسماء اللامعة في ساحة الأدب.. وفي حقيقة الأمر فإنَّ صحافة تلك الفترة كانت بتوجهها الأدبي تتجاوب مع حاجات المجتمع وثقافته وذوقه.. وبحكم الظّروف التَّعليميَّة والاقتصاديَّة وبحكم العلاقة الوثيقة تاريخيَّا بين العرب والأدب كانت الفنون الأدبيَّة هي وسيلـــة الثَّقافة ودلالتها وأساس التعليــم والمعبر إلى الثَّقافــة, ولذلك كان إقبال الصَّفوة والمتعلمين على قراءة الأدب أكثر من غيره من مصادر المعرفة, وعندما نشأت الصَّحافة كان لا بـدَّ لها أن تقوم على أكتاف الأدباء وتتوجه إلى المتأدِّبين.
ولعلَّ هذا الواقع الذي نشأت فيه الصَّحافة في مصر ثم انتقل بعد ذلك إلى العالم العربي هو المسئول عن تشكيل الذَّوق المعرفي العامِّ والحالة الثَّقافيَّة في المشرق العربي والإضرار بالصَّحافة من جانب وبالأدب من الجانب الأخر.
وعلى أيَّة حال فلقد استفاد الأدب كثيرا من الصَّحافة في بدايتها ومن المعروف أنَّ الكثير من مشاهير الأدباء في السَّماء العربيَّة يدينون بشهرتهم للصَّحافــة قبل الكتاب..” بل إنَّ معظــم مؤلفاتهم كانت تجميعا لأعمال سبق نشرهــا في الصّحــف اليوميــَّة أو المجلات الأسبوعيَّة, مثل كتاب الدكتور طه حسين ” حديث الأربعاء”، وكتاب ” حصاد الهشيم” للمازني وغيرهما كثيرٌ.
وهكذا كانت بداية الصَّحافة في مصر بعيدا عن التَّفاصيل.. ولم تكن بلادنا بمنأى عن التَّأثُّر.. إذ إنَّ بداية الصَّحافة في المملكة متشابهة إلى حدٍّ كبير مع الصَّحافة المصرية إن لم تتفوق عليها بالاهتمام الأدبي.. ولقد نشأت الصَّحافة السعوديَّة بجهود أشخاصٍ تنحصر اهتماماتهم في الأدب ويتعاملون مع الكلمة الأدبية.. وإذا أضفنا هذا الاهتمام إلى المحاكاة لصحافة مصر وواقع التَّعليم والعرف الثقافي في ذلك الوقت فليس من المستغرب تسمية صحافة البدايات في بلادنا بـ ” نشرات أدبيَّة” أكثر منها صحافة بالمفهوم والمدلول الدَّقيق المتعارف عليه لمعنى الصَّحافة.. وهذا لا ينتقص أبدا من حقِّ الرِّيادة لأولئك الرِّجال الذين وضعوا اللبنة الأولى في طريق صحافة نمت وتطورت فيما بعد.. وليس هنا مجال تتبِّع خطى النمو لهذه الصَّحافة حتَّى وصلت إلى ما وصلت إليه.
بيد أنَّ السّؤال هو: ما مدى علاقة بداية الصَّحافة في بلادنا بواقعها الحاضر؟
وسؤالٌ آخر: هل أثَّرت الصحافة في الأدب أم أنَّ العكس صحيحٌ؟
وسؤالٌ ثالثٌ: كيف تداخلت المفاهيم واختلطت الأدوار بين الأدب والصَّحافة؟
وهذا هو محور حديثنا هنا.. وأستميحكم العذر بأنَّ ما سأقوله لا يخضع لأساليب المنهج العلمي الكمِّيَّة في تحليل المضمون والدِّراسات المقارنة ولكنَّه رأيٌ استقرائيٌّ لمتتبِّعٍ لنمو وواقع صحافتنا بحكم التخصّص.. ولعلَّ هذه المحاضرة تمثِّل الحافز لي – ويبدو أنَّها كذلك- للقيام بدراسة منهجيَّة عن هذا الموضوع مستقبلا- إن شاء الله-.
من البديهي أنَّ نوع ومضمون البداية عامل مهمٌّ في التكوين والتَّشكيل الآتي لأيِّ فعلٍ.. ويمكن- إلى حدٍّ ما- أن تعزى درجة القوَّة أو الضعف وكذلك التحكم في التوجُّه إلى البدايات.. وكثيرٌ من المفاهيم التي نتعامل معها في حياتنا الحاضرة هي- في حقيقتها- نتاجٌ طبيعيٌّ للبدايات.. تلك البدايات التي قامت عليها جهودنا وتحدَّدت وفقا لها مسيراتنا فيما بعد- وهي- في رأيي- مسؤولة إلى حدٍّ كبيرٍ عن الضعف الذي يقعد ببعض مهمَّاتنا عن الكمال.. فكما أنَّ هذه البدايات أسهمت كثيرا في انطلاقتنا نحو الأفضل إلا أنَّها كبَّلت -بكلِّ أسفٍ – خطى التصحيح وفقــا لمتطلبات العصر ومفاهيمــه وما تمليــه الحاجــة ويفرضه الطٌّموح.. ولن نكون مخطئين إذا قرَّرنــا أنَّ الضعف النّسبي في التَّعليم والعلم والإعــلام أو غير ذلك لم يكن إلا بسبب خطأ المفاهيــم وكلَّما استمرَّ هذا الخطأ أطلنا في أمد الضعف وحدَّدنا من خطوات النّمو.. إذ إنَّ أيَّ تصحيحٍ لفعلٍ أو منهجٍ أو فكرٍ لا بدَّ أن يسبقه تصحيحٌ في المفهوم.
إذن, نحن في مواجهة أزمة مفاهيم.. وهي الأزمة التي أوجدَتْها- في رأيي- البدايات.. وقد يكون قصر المسافة الزَّمنيَّة بين حاضرنا وبداياتنا هو الذي أسهم في الحدِّ من بلورة مفاهيم جديدة تتجاوب مع الحاضر ومتطلباته.. أضف إلى ذلك استمرار هيمنة أصحاب البدايات إمَّا بالفعل مباشرة على مصادر الفكر والثقافة والتعليم وإمَّا بالتَّأثير غير المباشر بحكم بروزها كأسماء لامعة بسبب الأقدميَّة, ولعلَّ هذا الاستمرار هو عاملٌ آخرُ يحول دون بروز مفاهيم جديدة أكثر صحَّة وواقعيَّة.. ولم تكن صحافتنا بعيدة عن هذا الواقع.. بل لعلَّها أكثر ممَّن تأثَّر بالبداية.. وعلى الرّغم من انحسار الأدب- إلى حدٍّ كبيرٍ- عن ساحة الصَّحافة في الكثير من الدول العربيَّة وبروز صحافة تتعامل بحكم خصائصها مع المفهوم الصحيح إلَّا أنَّ صحافتنا استمرَّت في السير في كنف الأدب.. وحتَّى عندما برز توجُّهٌ جديدٌ في صحافتنا يتعامل من منطلق المحاكاة مع المضامين والأشكال الصّحفيَّة الصَّحيحة إلَّا أنَّه لم يبتعد كثيرا عن سلطة الأدب.. إذ تحولت هذه الصَّحافة إلى صحافة رأي بنسبةٍ كبيرةٍ.. وبصرف النَّظر عن هجوم الرِّياضة على صحافتنا وما يمكن أن يقال عنه.. إلَّا أنَّ الرَّأي كان ولا يزال هو المحور الرَّئيسي في هذه الصَّحافة.. وباستعراض كتَّاب الرَّأي في صحافتنا نجد أنَّهم أولئك الذين جاءوا إلى الصَّحافة من باب الأدب.. وقلَّما نجد كاتبا صحافيا يملك من الفرصة والمساحة والقبول في صحافتنا مثل ما هو متاح لمن يتعاملون مع الأدب.. بل إنَّ بعض هؤلاء الأدباء أو بالأصحِّ ممَّن عاشوا في ساحة الأدب يحتلون مراكز قياديَّة في الصَّحافة وتقع عليهم مسئولية توجيه الصَّحافة وتحديد واقعها وتشكيل مستقبلها.
ولذلك نجــد أنَّ القــدرة على فــنَّ التعبير الأدبي واستخــدام المحسِّنــات اللفظيــَّة والخيــال والصور الجماليَّة هي جواز المرور إلى الكتابة في صحافتنا.. وهذا واقع يخالف تماما المفهوم الصَّحيح للصَّحافة.. ولكن إذا كان هذا هو الواقع فهل خدمت الصَّحافة الأدب في بلادنا أو أنَّها- في واقع الأمر- قد جنت عليه؟ أو بالعكس هل أفادت الصَّحافة من الأدب؟
وفي حقيقة الأمر أنَّ موضوع التَّأثير والتأثّر بين الأدب والصَّحافة ليس جديدا.. وسبقت مناقشته في أكثر من مكان.. وإذا كان مثل هذا الموضوع قد أصبح تاريخا عند بعض الشعوب والأمم فإنَّني أعتقد أنه لم يحظ بعد بالتفكير الجادِّ في ساحتنا.. ولعلَّ تعاملنا مع الجاهز هو – بكلِّ أسفٍ – ما يحول بيننا وبين تناول أهمِّ القضايا التي تتعلَّق بفكرنا وثقافتنا وأغلب شئون حياتنا العامَّة بالطَّرح والمناقشة والتَّدارس والدِّراسة للوصول إلى نتائج صحيحة ونحن نعيش عصر الثَّورة في تقنيات الاتِّصال وفي عصر التَّخصّص الدَّقيق في كلِّ فرعٍ من فروع العلوم.. وفي هذا المقام أذكر أنَّ الكاتب الكبير” سومرست موم” وجَّه قبل عشرات السنين اتّهامات جريئة للصحافة حمَّلها فيها مسئولية الأزمة التي يمرُّ بها الأدب وقال: ” إنَّ الصَّحافة- في رأيي- هي المسؤولة عن الأزمة الخطيرة.. فلقد انتقلت عدوى الصَّحافة إلى الأدباء..” بينما رأى العقَّاد: أنَّ الصَّحافة نشرت الأدب وإن كانت أسفت بعض الإسفاف”.. واتَّهمت الدّكــتورة بنت الشَّاطئ الصَّحافة لجنايتها على الأدب إلَّا أنَّها قالت: ” رغم ما سبَّبته الصَّحافة للأدب غير أنَّها كانت المجال الأوَّل للأقلام المبدعة وكانت الوسيلة الناجحة لتقديم الأدب إلى القرَّاء”, وهذا صحيح، ولن نتحدَّث عن استفادة الأدب من الصَّحافة، فقد سبق التَّلميح لبعض جوانب هذه الفائدة بيد أنَّ المهمَّ هنا هو مناقشة ما ألحقته الصَّحافة بالأدب من ضرر, وبنفس المعيار ننظر إلى مدى معاناة الصَّحافة بحكم تزاوجها مع الأدب.
وإذا قصرنا الحديــث على المستوى المحليَّ- وبإيجــاز- فإنَّنا نجد أنَّ الصَّحافة على الرّغم من أنَّها أسهمت في نشر الأدب, وأبرزت الكثير من الأعمال الأدبية, واشتهر بسببها العديد ممَّن يتعاملون مع الأدب إلا أنَّها في المقابل جذبت الأدباء إلى بلاطها, وأغرت الكثيرين من المبتدئين في الأدب بالدّخول إلى ساحتها وبالتَّالي حدَّت من النّمو والرّقي الأدبي.. وأصبح أغلب ما لدينا – مع الاعتذار للجميع- هو أدب صحافــة لا غير تنقصه السمات الأدبيَّة المتعارف عليها وهو بذلك لا يقترب من الإبداع الأدبي الفذِّ.. ولعلَّ هذا يتَّفق مع ما سبقت الإشارة إليه من قول ” سومرست موم والعقَّاد).
ومع أنَّني لست ناقدا أدبيا.. ولا مدَّعيا عامَّا في محكمة الأدب ضدَّ الصَّحافة ولا أرغب أن أكون قاضيا أجيز لنفسي حقَّ النطق بالحكم.. ولكن من خلال المتابعة والمعايشة والمقارنة والرؤى الذَّاتيَّة يمكن القول: إنَّ الصَّحافة هي المسؤولة عن عدم وجود عملٍ أدبيٍّ محليٍّ خالدٍ, ومع الاحترام والتقدير للرَّأي المخالف إلَّا أنَّني لا أعتقد أنَّ أحدا يذكر أعمالا أدبيَّة في مستوى ما أبدعه طه حسين أو المازني أو العقَّاد أو نجيب محفوظ أو بدر شاكر السيَّاب مثلا أو أيٌّ من الأسماء العربيَّة الأخرى التي برزت في الساحة الأدبيَّة, وقد يقول قائل: إنَّ الصَّحافة ليست وحدها المسؤولة عن ما يعتري أدبنا من ضعف ولكن هناك بعض الظّروف والعوامل التي أسهمت أيضا في هذه المسألة.. ومع التّسليم بصحَّة هذا القول إلَّا أنَّ الصَّحافة – في رأيي- تمثّل السبب الرَّئيسي ذلك لأنَّها أخذت من السَّاحة الأدبيَّة أدباء متمكّنين أو طلائع بدؤوا فعلا خطواتهم الأولى في هذه السَّاحة.. فلو لم تغرهم الصَّحافة وتستهوهم الشّهرة السَّريعة ألا يمكن أن يكونوا الآن من مشاهير أدباء العالم العربي؟.
وفي حديثٍ مع بعض هؤلاء الأدباء الشباب قبل سنوات قرَّروا ” أنَّ الصَّحافة فعلا كست عطاء بعض الأدباء بالشحوب إثر إغرائهم بالانتشار الواسع والتفرغ في مهامِّهم.. وبذلك تسبَّب الانتشار السَّريع في التَّقليل من جودة العطاء.. كما أنَّ الالتزام الأسبوعي واليومي لهؤلاء الذين يعدّون من طلائع الأدباء لدينا أفقد الأدب الكثير من قيمته وسرق منَّا أدباء واعدين.
إذ إنَّ الكثير ممَّن دخلوا إلى بلاط الصَّحافة من باب الأدباء تحوّلوا إلى موظفين صحافيين.. وهذا ما يمكن أن يعود بنا إلى السّؤال السّابق: هل تنازل الأدب عن حريَّته ووصل إلى مرتبة الحرفة وأصبح أجيرا في بلاط الصحافة؟.. قد لا يكون الواقع كذلك.. وقد يكون هناك من المسبِّبات والظّروف ما لم يمكن تحديد أبعادها دون دراسات دقيقة ورويَّة في الوصول إلى النَّتائج.. غير أنَّني أتذكَّر ما قاله لي أحد الأدباء الشباب بأنَّ ” تحوّل عددٍ من الأدباء إلى صحافيين صرفهم عن الاهتمام بالأدب وقضاياه.. الاهتمامَ المترويَّ.. العميقَ ثقافةً وأسلوبا.. وهي الأمور التي لا تتطلَّبها الصَّحافة لاقتصار اهتمامها على الحدث.. وهذا التحوّل منشأه حاجة الأديب إلى دخل يحفظ له قيمته الأدبية والاجتماعيَّة ” – هكذا قال -, وبصرف النَّظر عن ما قاله هذا الأديب عن أسباب التحوّل إلَّا أنَّ تحوّل الأدباء – وخاصَّة الشَّباب منهم بعد أوَّل قصيدة منشورة أو مقالة أدبيَّة – إلى الصَّحافة أصبح هو القاعدة التي تحكم الانتماء إلى الصَّحافة.. وهو- في اعتقادي- سبب خسارة الساحة الأدبية لطلائع كان يمكن أن يكون لها شأنٌ اكبرُ في العطاء الأدبي المتميز.
وإذا ما استعرضنا بعض الأسماء الشَّابة التي بدأت خطوتها الأولى على دروب الأدب وانتهى بها المطاف إلى العمل في الصَّحافة نجد أنَّ غالبية ممَّن يعمل في الصَّحافة هم من الأدباء ومن هؤلاء.. الجفرى، والمنَّاع، والصَّافي، والحميدي، والفزيع، والحربي، والصيخان، والشيخ، ومحمد العلي، ومحمد علوان، والآشي، وحسين علي حسين، وغيرهم كثيرٍ ممَّا لا تحضرني أسماؤهم.. وهؤلاء إمَّا أنَّهم يعملون في مراكز صحافيـَّـة قياديــَّـة أو ممَّن يعملون في شئون التَّحريــر أو من كتَّاب الــرَّأي الملتزمين يوميا أو أسبوعيا.. وفي قضايا معظمها لا يمتُّ للأدب بصلة أكثر من استخدام الصيـــغ الجمالية والاستعارات والتعبيرات المجازية .. وبهذا الواقع فلقد فقدت السَّاحة الأدبيَّة الكثير ممَّن يمكن أن يكون لإسهاماتهم دورٌ بارزٌ في حياتنا الأدبيَّة.
أمَّا فيما يتعلق- من جانب آخر- بمعاناة الصَّحافة من الأدب فإنَّ ذلك قد ينحصر في قصورها عن ممارسة الدَّور الصَّحافي وفقا للمفهوم الإعلامي المعاصر.. صحيحٌ أنَّ الخبر والتَّحقيق والتَّقرير وغير ذلك من الفنون الصَّحافية الأساسيَّة أصبحت من السِّمات البارزة في صحافتنا.. ولكنَّها في أغلبها صناعة خارجيَّة من نتاج وكالات الأنباء العالميَّة.. ولهذا وبالنَّظر لما تبقَّي من المضمون الصَّحافي في هذه الصَّحافة نجد أنَّ الرَّأي يحتلُّ نسبةً كبيرةً من المساحة.. وهو الرَّأي الذي يعتمد على الأساليب الأدبيَّة.. بل إنَّ معظم من يكتبون الرَّأي – كما سبق أن أشرت – هم من الأدباء.. وأصبح التَّقويم لما يكتب من حيث الأسلوب بل أصبح الانتماء للصَّحافة بالعمل محكوما بالقدرة على التَّعامل مع الأساليب والصيغ الأدبيَّة باقتدار، وعلى الرّغم من أنَّ للصَّحافة لغتها الخاصَّة بها والتي تحدَّثنا عنها في بداية هذه المحاضرة وأنَّ الصَّحافي يتعامل مع الأحداث الآنية، بأسلوبٍ يأخذ في الاعتبار مختلف المستويات التعليميَّة والثقافيَّة للمتلقين إلَّا أنَّ الصَّحافة لا تزال تقع تحت تأثير المفهوم الأدبيِّ على أقلِّ تقديرٍ في تقويم العمل الكتابي أو تقويم أداء الصحافي.. أضف إلى ذلك إسهام هذه الصَّحافة في تعميق وتأكيد العرف العامِّ عن ماهيَّة الثقافة وماهيَّة المعرفة.. فقد أصبح المتأدِّبون والمتحدِّثون بالمعلومة عن الأدب وبالأسلوب الأدبي في العرض هم من تعترف بهم في السَّاحة العامَّة كمثقَّفين.. ولعلَّكم تلاحظون أنَّه عندما يحتدم الحوار في المجالس وفي وسائل الإعلام يكون الأدب وموضوعاته هو محور النقاش والجدل.. وعندما تعقد الندوات والمؤتمرات والملتقيات يكون كلُّ ذلك من أجل عيون الأدب.. وعندما يرغب شاب أو شابة في الإعلان عن ثقافته فلا بدَّ أن يطلَّ من شرفة الأدب.. وصار عرفٌ عربيٌّ بأنَّ المثقَّف هو من يجيد مغازلة الحروف.. ويحفظ سلسلة أسماء مشاهير الشعر والقصة والرواية والمسرحية.. وعندما نستعرض أسماء مشاهير الفكر العربيِّ التي جعلت الصَّحافة العربيَّة منهم رموزا للاقتداء نجد أنَّ هؤلاء هم الذين يجيدون الرَّسم بالكلمات.
ومن خلال تجربتي في الجامعة اتضح أنَّ مفهوم الشَّباب للثَّقافة وحتَّى للإبداع ينحصر في المعرفة الأدبيَّة ورموزها قديما وحديثا.. وعندما نخصِّص جوائز للمبدعين تكون بلا جدالٍ في الأدب.. وعندما جاءت للعرب جائزة نوبل العالمية لم تأتِ في الطبِّ أو الكيمياء أو الفيزياء وغيرها من العلوم التطبيقيَّة ولكنَّها جاءت تتبختر جذلى من باب الأدب.. وفي الحقيقة فلقد أصابت الهدف.
فلماذا الأدب.. دون غيره، بصرف النَّظر عن العلاقة التاريخيَّة بيننا وبينه ودوره في حياتنا إلا أنَّني أعتقد أنَّ الصَّحافة الغربيَّة عموما وصحافتنا على وجه الخصوص قد أسهمت في خلق ذوق عامٍّ يقوم على الأدب.
وفي بلورة توجّهٍ فكريٍّ يرتكز على الأدب.. حتَّى يبدو وكأن الأدب هو محور العقل العربيٍّ وهو وسيلة الثقافة والإبداع.. وفيما يبدو أنَّ ظاهرة الأدب التي استولت إلى حدٍّ كبيرٍ على ساحة الفكر والثَّقافة هي ما جعل العلاقة بيننا وبين الواقع المعاصر بكلِّ اختراعاته وإنجازاته لا تتجاوز قصيدة شعرٍ أو قصَّة ضياعٍ.
وأرجو ألَّا يفهم من كلِّ ذلك أنَّ لي موقفا سلبيا من الأدب.. ولكنَّني أطلب أوَّلا أن نعيش عصرنا بكلِّ ما فيه من إبداعاتٍ وابتكاراتٍ مكَّنت إنسان الحاضر من اختراق عوالم الفضاء والسيطرة على تحديـــات البيئــة والطبيعــة وأثــرت الحياة بمنجزات حضاريَّـة لم يسبق لها مثيل.. بينما لا تزال بعض الشعوب تعيش مع الخيال واستدرار العواطف.. بيد أنَّنا لا ننكر أنَّ للأدب دورا كبيرا في إثراء حياتنا الفكريَّة والمعرفيَّة وبلورة الكثير من المواقف الإنسانيَّة في الحياة.. ولكن ذلك لا يعطيه حقَّ الأسبقية في عصر العلم.. ولعلَّ الصَّحافة تكون من أوَّل المنطلقين من وثاق الأدب وذلك بتصحيح المفهوم لماهيَّة العمل الصَّحافي وفنونه.. ورسالــة الصَّحافــة.. وتحديــد الفروق بين الأساليب الأدبيــَّـة.. والأساليب الصَّحافيَّة.. وبين الصَّحافي والأديب.. فليس صحيحا أو ملائما أن يكون قاصٌّ مسؤولا عن متابعة الأوضاع في ترينداد أو ليبيريا.. أو شاعرٌ مكلفا بمتابعة المتغيّرات في الاتحاد السوفيتي وأوروبا الشرقيَّة.. أو صحفي يكتب تحليلا لقصص نجيب محفوظ أو نقدا لقصائد نزار قباني.. بكلِّ أسفٍ هذا هو واقع الصَّحافة في حاضرها.. ولا بدَّ من الخروج من هذا الواقع بتحديد التّخوم الفاصلة بين الصَّحافة والأدب.
أيُّها الأخوة:
أعرف أنَّ الأذن العربيَّة تتراقص مع الكلمة المموسقة.. وأنَّ النَّفس لتطرب لرومانسيَّة وشفافيَّة حروف لغتنا الجميلة.. ولكن ” العرض الصحافي هو ما يمكن أن يستثير المتلقِّي ويلفت نظره، أكثر مما يهتمُّ بالإمتاع بجمال العرض ورونق الصِّياغة”. وأعتقد أنَّ هذه المحاضرة تمحورت وتبوتقت في إطار العرض الصحافي.. وأستميح العذر لكلِّ أولئك الذين لم تطرب نفوسهم من أسلوب العرض الجادِّ.
وأؤكِّد أنَّ ما سبق أن قيل ما هو إلا خطوطٌ عريضةٌ لقضيةٍ مهمَّةٍ أعدكم بالبحث منهجيا فيها في المستقبل القريب- إن شاء الله-.. ولا يفوتني أن أكرِّر شكري لهذا النَّادي الطّموح والنَّشط.. وأخصُّ بالشّكر رئيسه الذي زيَّن مكتبي بمطبوعات النَّادي القيّمة.. والشّكر الجزيل لأخي الكريم محمَّد منصور الشقحاء الذي أعدَّ لهذا اللقاء.. والشّكر موصولٌ لكم جميعا على استجابتكم الكريمة بالحضور.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،،

النادي الأدبي بالطائف

زر الذهاب إلى الأعلى