الإعلامُ الإسلاميُّ 2
1410هـ -1989م:
ما هوَ الإعلامُ الإسلاميُّ؟ وما هيَ مشكلاتُهُ؟ وما هيَ سبلُ تطويرِهِ؟
قبلَ تحديدِ ماهيَّةِ الإعلامِ الإسلاميِّ يمكنُ النّظرُ في تعريفِ أوتوجروت للإعلامِ الذي يقولُ: إنّه ( التّعبيرُ الموضوعيُّ لعقليّةِ الجماهيرِ ولروحِها وميولِها واتِّجاهاتِها في الوقتِ ذاتِهِ) وإذا أقرَّينا هذا التّعريفَ الذي اصطلحَ عليه الأكاديميون في مجالِ الإعلامِ فإنّه من الصّعبِ النّظرُ إلى الإعلامِ في العالمِ الإسلامي بمعزلٍ عن الظُّروفِ الثّقافيةِ والاقتصاديةِ والسِّياسيةِ, فالإعلام لا ينشأ في فراغٍ, وكما أنّ الوسائلَ الإعلاميةَ بحكمِ خصائصها تملكُ القدرةَ على التّأثيرِ في ميولِ واتِّجاهاتِ وأفكارِ الجماهيرِ فإنّها في المقابلِ تتأثّرَ سلباً وإيجاباً بمجتمعها.
والواقعُ المعاصرُ للعالمِ الإسلامي يبتعدُ بدرجاتٍ متفاوتةٍ عن حقيقةِ وجوهرِ الإسلامِ كما يجبُ أن يكونَ, وقد مرّ الإسلامُ عبرَ تاريخه بعدَ الخلافةِ الرّاشدةِ بمنعطفاتٍ متعدِّدةٍ أدخلت الكثيرَ من المفاهيمِ وبالتّالي الممارساتِ التي أدّت إلى تكوينِ وبناءِ صورٍ على الرّغمِ من صلتها بالأصلِ إلا أنّها تختلفُ في الملامحِ والأبعادِ, وقد أستمرَّ هذا البناءُ لصورٍ إسلاميّةٍ بعيدةٍ في الكثيرِ من ملامحها عن جوهرِ العقيدةِ الإسلاميّةِ إلى أن جاءَ عصرُ الاستعمارِ للعالمِ الإسلاميِّ.
وإذا أخذنا في الاعتبارِ أنّ اليهوديّةَ والمسيحيّةَ هما الدِّيانتان اللّتان اعتبرتا الإسلامَ منذُ انبثاقِ فجرِهِ خطرا يهدِّدُ كيانهما فقد كانت العداوةُ له حادّةً وشرسةً استخدمت الكثير من الوسائلِ ليسَ فقط للحدِّ من انتشارِ الإسلامِ ولكنَّ المحاولةَ الجادّةَ للقضاءِ عليه, وقد سنحت لهم الفرصةُ عندما وقعَ العالمُ الإسلاميُّ تحتَ الاستعمارِ, غير أنّ كلّ الجهودِ التي بذلـت من أجلِ تحقيقِ المستعمرِ الغربي للقضاءِ على الإسلامِ لم تُثمرْ كما أرادَ لها إلا أنّه نجحَ إلى حدٍّ كبيرٍ في رسمِ صورةٍ ذاتيّةٍ له في ذهنِ سكانِ مستعمراته من المسلمين, صورةٍ مثاليةٍ جعلت منه نموذجا للحضارةِ مستغلا معطياته العلميّةِ والتقنيّةِ لتثير الإعجاب والتّقدير خاصّةً وأنّ الغرب تمكّن من ناصيةِ الإنجازاتِ التكنولوجيّةِ بينما يعيشُ العالمُ الإسلاميُّ في غياهب الأمِّيّةِ والجهلِ وهذا كانَ دافعا قويًّا أن يكونَ تطلُّعُ المسلمين بواقعهم المتردِّي إلى محاكاة الغربِ ليس في ابتكاراته ومنجزاته ولكن – وهذه المشكلة – في ثقافته ( CULTURE).
ومن جانبٍ آخر نجحَ المستعمرُ في محاربته للإسلامِ بتشكيك المسلمين في معتقداتهم, وإن كانَ مثلُ هذا الشكِّ لم يصلْ إلى جوهرِ التّوحيدِ والعباداتِ ولكنّه نجحَ في زعزعةِ الثِّقةِ في قدرةِ الإسلامِ على مسايرةِ العصرِ وبالتّالي قدرة المسلمين في مواجهةِ تحدياتِ العصرِ الاجتماعيّةِ والاقتصاديّةِ والعلميّةِ والثقافيّةِ الخ…
وهذا التّشكيكُ كان ضرورةً بالنِّسبةِ لهم ولا يزالُ الإعلام اليهودي والغربي يعملُ جاهدا لتحقيقِ ذلك انطلاقا من نظريةِ (هيدر) خبير الاتِّصال الأمريكي عن التوازنِ؛ ذلك أنّ النّجاح في التّشكيكِ يؤدِّي إلى حالةٍ غيرِ متوازنةٍ وذلك يمثِّل مقدِّمةً أساسيّةً للتغييرِ المطلوبِ, وهذا هو منطلق وفلسفة الغزو الثقافي أو الفكري للمجتمعاتِ الأقلِّ حظّا في التّعليمِ, ولن نخطئ إذا قرّرنا أنّ الاستعمارَ لم يرحلْ دونَ أن يتركَ شيئا من ثقافتِهِ وأنماطِهِ الاجتماعيّةِ التي تختلفُ عن القيمِ الإسلاميّةِ ولكنّه نجحَ أكثر بعد أن شهدَ هذا القرنُ ثورةً اتصاليّةً كبيرةً كانَ هو – أي الغرب – بطلها وأيضا هو مستثمرها فواصلَ مسيرةَ تشكيكِ المسلمين في قيمِهم وعاداتِهم وثقافاتِهم ومضامينِهم الاجتماعيّةِ المستمدّةِ من الإسلامِ مستخدما وسائل الإعلامِ الأكثر تأثيرا, وفي الوقتِ ذاته يعرضُ الثقافة الغربيّة في أبهى حللها بشكلٍ يوحي بأنّ الحضارةَ المادِّيّةَ والثقافيّةَ المعنويّةَ مترابطتان وأنّ الأولى تعتمدُ على الثانيةِ, فإذا كانت الإنجازاتُ الحضاريّةُ الغربيّةُ في المجالِ المادِّي هي ما يتطلعُ إليه العالمُ الإسلامي فعليه أن يتخلى عن أصالته وجذوره المحليّةِ, وهنا يكونُ الفصلُ عن الانتماءِ العقدي والثقافي مادِّيا ومعنويا, وبالنّظرِ إلى حاضرِ العالمِ الإسلامي نجدُ أن بعضَ دوله شبهُ منفصلةٍ تماما – على الأقلِّ في السلوكِ – عن الإسلام شكلا ومضمونا, وبعضَه الآخرَ يعيشُ في مواقعِ الانبهارِ بالقوى المعاصرةِ مشكِّكا حتّى في مصادرِ تكوينه الثّقافي ومتجها بشكلٍ قويٍّ نحو المحاكاةِ.
إذن, من هذا الواقعِ لحالةِ العالمِ الإسلامي يمكنُ النّظر إلى محتوى وسائــلِ إعلامه بما لا يختلفُ عن التعريفِ الذي جاءَ في مستهلِّ هذا الموضوعِ لأتوجروت, وهو التعريفُ الأكثر صحّـة عند الحديثِ عن ماهيّةِ الإعلامِ, وإذا كانت الرسائلُ الإعلاميةُ تتمثلُ في نقلِ الأفكارِ والمشاعرِ والمعرفةِ وتعكسُ واقعَ المجتمعِ بكلِّ مكوناته فإنّه لا يمكنُ محاكمتها بمعيارٍ إسلامي والمجتمعُ ذاته يبتعدُ بسلوكياته إلى حدٍّ كبيرٍ عن الروحِ الإسلاميةِ, طبعا هذا لا يعفي وسائلَ الإعلام في العالمِ الإسلامي من تحمُّلِ مسئولياتها وممارسةِ مهمّاتها بما يتّفقُ وجوهرَ عقيدةِ المجتمعِ الذي تعملُ فيه غير أنّ من الإنصافِ ألاّ نتحدّثَ عن رجلِ الإعلامِ وهو المصمِّمُ والمرسلُ للرسالةِ الإعلاميّةِ خارج إطارِ مجتمعِهِ.
وعندما نعودُ إلى الجذورِ الإسلاميّةِ بكلِّ جوانبها المشرقــةِ بعيدا عن بعضِ المفاهيمِ والممارساتِ الإسلاميّةِ المعاصرةِ فإنّ الإعلام الإسلامي هو ما يقومُ على الحقِّ والحقيقةِ والالتزامِ بالموضوعيّةِ.
وهذه صفاتٌ يأمر بها الإسلامُ من أجلِ كماله ولنا أن نتصوّرَ مضمونا إعلاميا لا يخرجُ عن الصِّدقِ فيما يقولُ ويعرضُ, ولا يتعاملُ معَ ما هو خارجُ إطارِ الحقيقةِ, ولا يرتكزُ على الذاتيّةِ في مخاطبةِ جماهيره, فالإعلامُ الإسلامي لا يجبُ أن يكونَ لإرضاءِ النّزواتِ وقتلِ الأوقاتِ واستجابةِ للغرائزِ ولكنّه يجبُ أن يكونَ إعلام السموِّ والفضيلـةِ والسّلامِ, وأن مثل هذا الإعلامِ لا يكسبُ المصداقيّة فقط ولا يكونُ من عوامل القيادة المؤثِّرة للمسلمين فقط ولكنّه سوفَ يتجاوزُ ذلكَ إلى أن يكونَ أنموذجا يحتذي في عالمِ غيرِ المسلمين.
قد يقولُ البعضُ: إنّ الزّيفَ والخداعَ من صفات هذا العصرِ ومن الصّعبِ التّعاملُ فيه دون مجاراةِ الظُّروفِ العالميّةِ المعاصرةِ, وهذا من المفاهيمِ الخاطئةِ فنحنُ عندما ابتعدنا عن المنهجِ الإسلامي بكلِّ جهودِهِ واتّجهنا إلى التقليدِ أو إلى بناءِ مفاهيم اجتهاديّةٍ خاطئةٍ فقدنا أن يكونَ لنا رسالةٌ واضحةُ المعالمِ يجتذبُ مضمونها العالمَ, وضعُفتْ هويّتنا فضاعَ منّا الطّريق وركضنا نلهثُ وراءَ النّقلِ النّاقصِ والتّقليــدِ المهترئ, وبــذا اخترنا لخيــرِ أمّةٍ أخرجت للناسِ أن تكونَ تابعــةً لا متبوعــةً ومنقادةً لا قائدةً, ومستضعفةً محتقرةً, وذلكَ بعكسِ ما اختاره الغرب لمجتمعاتِهِ في ممارساته الإعلاميّةِ فقد أختارَ (المسئوليّةَ الاجتماعيّةَ) معياراً أساسيًّا يحكمٌ المضمونَ الإعلامي في وسائله شكلا ومضمونا وذلكَ بما يتّفقُ وانتمائه العقدي والسِّياسي والاقتصادي والاجتماعي وبما يتمشّى مع مضامينه الاجتماعيّةِ, ولم يَحُدْ عن هذه المسئوليّةِ التي أصحبت هي القانونَ الذي يسيّرُ إعلامه, بينما اتّجه الإعلامُ في البلدانِ الإسلاميّةِ يبحثُ له عن هويّة في خارجِ إطاره ففقد هويّته الإسلاميّة التي يجبُ أن تكونَ أساس منطلقه ولم يكسبْ هويّة جديدة جديرة بالتّقديرِ تحقِّقُ أهدافه, بل إنّ المتتبِّعَ لإعلامِ المسلمين يجدُ أنّه بما يبثُّهُ من محتوى – كما تثبتُ معظمُ الدراسات – يكرِّسُ البعدَ بين المسلمين وعقيدتهم الصحيحةِ, كما يمثِّلُ في معظمِ جوانبه منفذا ناجحا للغزوِ الثقافي ومصدرا من مصادرِ التّخديرِ الفكري والتّمييعِ العقلي.
ولكي نصلَ إلى إعلامٍ إسلامي ناجـحٍ فإنّه يجبُ تصحيحُ المفهومِ للإعلامِ في بعض دولِ العالمِ الإسلامي – أولا – ولعلّ ما يجبُ أن يبدأ به القضاء على هذا الفصلِ في الصّحافةِ والإذاعةِ والتِّلفزيونِ بين ما يسمّونه برامج دينيّة وغير دينيّةٍ أو مادّة دينيّة وغير دينيّةٍ, فالصحيفة والإذاعة والتِّلفزيون تبني كلَّ مضمونها على قاعدةٍ إسلاميّةٍ صحيحةٍ خبرا كانَ أو مقالةً أو تقريرا إلى آخر ذلكَ من الفنونِ الإعلاميّةِ وبدايةً من الكلمةِ وانتهاءً بالإخراجِ, وهذا سوفَ ينهي التّخصيصَ الذي نراهُ في وسائلِ الإعلامِ للموادِّ الدينيّةِ إلا إذا كانَ ذلكَ يتعلقُ بالفتاوى والتّعليماتِ الدينيّةِ, والإسلامُ ليسَ كما يريدُ له ( المتفيقهون) من علمائِهِ فهو ليسَ رهبانيّةً ولكنّه دينٌ شموليٌّ صالحٌ لكلِّ زمانٍ ومكانٍ يملك كلّ مسبِّبات التّعامل مع معطياتِ الحضارةِ بسموٍّ واقتدارٍ.
ولهذا يجبُ القضاءُ على مفهومِ أنّ وسائلَ الإعلام هي وسائلُ للخطابة والمواعظِ الدينيّة والأحاديث السّرديّة ولكن يمكن استخدام التكنيكِ الإعلامي المؤثِّرِ كما عرفَهُ العصرُ ولكن على أسسٍ إسلاميّةٍ تقومُ على الصدقِ والأمانةِ والكرامةِ واحترامِ الذاتِ الإنسانيّةِ, وإذا عرفنا أنّ الإعلام الغربي يقومُ على النظريّةِ ( الإيحائيّة) في مضمونه فإنّ القرآنَ الكريمَ أوّل من أعتمدَ هذه النظريّةَ في مخاطبةِ النّاسِ, ولكنّنا – بكلِّ أسفٍ – حُدْنا بالمفاهيمِ الحاليّةِ للإسلامِ عن الصّوابِ, ومن أهمِّ أخطائنا أنّ هناكَ من علماءِ المسلمين من يطالبُ بالابتعاد عن استخدامِ وسائلِ الإعلامِ المعاصرةِ جملةً وتفصيلا على الرّغمِ من أنّ الإسلامَ لم يخترعْ الوسائلَ التي انتشرَ بها ولكنّه استخدمَ ما كان متوافرا منها قبلَ نزولِهِ ولم يحرِّمها.
واعتقدُ أنّ مشكلةَ الإعلامِ الإسلامي هو أنّ المسلمينَ لم يستطيعوا بعدُ التّعاملَ معه ضعفا في المفهومِ وضعفا في القدرةِ وضعفا في العقيدةِ.
وكما يقولُ لاوند: إنّ الإسلامَ ( ليسَ رؤيةً اعتقاديّةً وحسب، إنّه باعتراف كلِّ الدّارسين من مسلمينَ وغير مسلمينَ طريقةٌ في التّفكيرِ وأسلوبٌ في العيش وخطّةٌ في التّعامل، بمعنى أنّه عقيدةٌ وشريعةٌ وآدابٌ وسلوكٌ) وبتعبيرٍ آخر هو فلسفةٌ متكاملةٌ قاعدتها الإيمان وقمّتها الالتزام بسلوكٍ معيّنٍ, وبهذا المفهومِ نستطيعُ أن نديرَ وسائلَ إعلامِنا وبذا يكونَ لنا إعلامٌ إسلاميٌّ.
ولكي يكونَ لنا إعلامٌ إسلاميٌّ فيجبُ أوَّلا: تصحيحُ المفهومِ, واستثمارُ كلِّ الفنونِ الإعلاميةِ الحديثةِ بمنظورٍ إسلامي.
ثانيا: الإيمانُ بأنَّ لنا رسالةً كبرى ليسَ داخل مجتمعاتنا فقط ولكن تجاه العالم كلِّه.
ثالثا: رسالتنا تجاه النَّهوضِ بمجتمعاتنا لتعودَ لأمجادها أمَّةً قائدةً, وأنَّ الإعلام وسيلةٌ ناجحةٌ ومؤثِّرةٌ لقيادة أمَّتنا إلى الأفضلِ..
رابعا: إنَّ لنا قضيَّةً أهمَّ وأكبر من قضيةِ الفنِّ وأخبارِ حياةِ الطيورِ.
خامسا: إعدادُ رجلِ الإعلامِ المسلمِ إعدادا علميا ومهنيـًّا يمكّنه من استخدامِ كلِّ معطياتِ التّقنيةِ الإعلاميَّةِ المعاصرةِ على أن يكون هذا الرجل محكوما بالإسلامِ في سلوكِهِ.
سادسا: التَّوقُّفُ عن الاجتهاداتِ البعيدةِ عن روحِ الإسلامِ في ماهيَّةِ الإعلامِ وكيفيَّةِ استخدامه لكي لا تنحسرَ وسائطُ معاصرةٌ مهمَّةٌ في بناءِ الذاتِ الإسلاميَّةِ وفي تحقيقِ أهدافِ رسالته.
وإذا كنا نؤمنُ حقًّا بأنَّ الدِّينَ الإسلامي في جوهره يمثِّلُ قمَّة فضائلِ السَّلوكِ البشري, فلماذا إذا لا يكونُ هو لا غيره مصدرَ نشاطنا؟ وكما ذكر أحدُ علماءِ المسلمين فإنَّه حينَ ( تنطبقُ حياتنـا على قواعدِ الإسلامِ وأركانه انطباقا كاملا تنبثق انبثاقا ذاتيا من تصوراتِ الإسلامِ ومفاهيمه ومن منهجه السلوكي العملي) عندها يكونُ لنا إعلامٌ إسلاميٌّ صحيحٌ.
د. ساعد العرابي الحارثي